كان من الطبيعي، عندما كنت أشاهد على إحدى الشاشات تكريماً لبشير الجميّل، أن أستحضر صوراً ومشاهد عشتها خلال الحرب الأهلية. لم أكن قد بلغت الثلاثين حين تساءلت بسذاجة أمام قائد في الحزب الشيوعي الذي ناضلت في صفوفه، أليس من المُحتمل أن يتواجه المقاتل الشيوعي بالنار مع فتاة أحبّها وهما على مقاعد الدراسة قبل أن تُباعد بينهما الحرب؟ أدركت لاحقاً أن هذا الصنف من الأسئلة الرومنطيقية لا يُطرح على المحاربين.
بعد انتخابه رئيساً، شاركت آخرين مسعاهم بمنع أحد رموز الحركة الوطنية من زيارة القصر الجمهوري لتهنئته. وفي ذكرى اغتياله منذ ثلاث سنوات، تساءلت بجدّية وواقعية، في مقالة صحافية، عمّا إذا كان هذا المسعى قد خدم قضية الوطن أو أساء إليها. في التساؤل مراجعة وقراءة نقدية كانت مستحيلة في أيام الحرب، لكنّها صارت واجبة بعدما حطّت رحالها.
بشير الجميل يستحقّ التكريم، لا لأنّه شهيد فحسب، بل لأنّه من طينة من يتركون بصمة في كتابة تاريخ بلادهم، مثل كمال جنبلاط على الضفّة الأخرى من الحرب، ورفيق الحريري في ورشة إعادة البناء. وليس صدفة أن يُصدِر المستبدُّ ذاتُه القرار باغتيالهم. التكريم الحقيقي لهؤلاء الشهداء هو أخذ العبرة من المشترك الذي جعلهم هدفاً لصاحب القرار بالقتل.
لم يتّفق هؤلاء الشهداء على كلّ شيء، ولم يختلفوا على كلّ شيء. بشير الجميل اتّفق مع كمال جنبلاط على الإصلاح السياسي، واختلفا على الموقف من المقاومة الفلسطينية. خطأهما المشترك أنّهما حاولا معالجة الأعراض من دون الأسباب. اتّفاق القاهرة لم تصنعه الحركة الوطنية، وإن كانت قد هلّلت له، ولا المارونية السياسية، وإن كانت قد وافقت عليه، بل صنعه إجماع العالم العربي على إبعاد كأس القضية الفلسطينية المرّ عن حدود دوله. أمّا رفيق الحريري بعدما صار رئيساً للوزراء، فقد تبنّى مقولة ماركسية تشدّد على أولية البنية التحتية، مُسلّماً أمر الشأن السياسي وإعادة بناء الدولة للوصيّ السوري وللميليشيات المحلية المسلّحة وغير المسلّحة.
اغتيل الثلاثة لأنّ مشروع كلّ منهم عن الدولة الوطنية اصطدم بمشروع الدولة القومية، مع أنّه كان يشكو من عاهة مشتركة، هي غياب الديموقراطية. لا تبنى الدولة إلا إذا احتكرت العنف وحدها. كان بيار الجميل الجدّ على حقّ حين كان يكرّر في مانشيت جريدة “العمل” احتجاجه واعتراضه على قيام دولة داخل الدولة. لكنّه، لا هو ولا نجله بشير ولا كمال جنبلاط، كانوا على حقّ حين توسّلوا العنف واستدرجوا القوى الخارجية، إسرائيل وسوريا والمقاومة الفلسطينية، ليبنوا الدولة، ولا كانوا على حقّ حين حوّلوا الاحتجاج ميليشيات مسلّحة، وجعلوها باباً للدخول إلى جهنّم الحرب الأهلية.
استحضار آليات الحرب الأهلية لا يُعدّ تكريماً للشهداء، بل هو أقرب إلى دقّ النفير منه إلى الإعتذار عن فعلة العنف المسلّح. القرار بعزل الكتائب في بداية الحرب لم يكن وحده الخطيئة، بل هو ردّ فعل شنيع على كلام كثير، قيل عن المجتمع المسيحي وعن حماية المسيحيين. الحماية الوحيدة للمسيحيين ولسواهم لا تكون بغير الدولة الديموقراطية.
تكريم الشهداء يحتاج إلى قراءة نقدية جريئة تُبرز الجانب المضيء لدى كل منهم، وتستخرج العبرة ليتعلّم منها الجيل الجديد مبادئ الديموقراطية وسبل تفادي مرارات الحروب الأهلية.
moukaled47@gmail.com
نداء الوطن