يدور نقاش هادئ حول سياسة الإدارة الأمريكية تجاه الأزمة السورية. وإذا كان الأمر يتعلق فقط بتجنب نتائج أسوأ بكثير، يجب على واشنطن أن ترفض الإعادة “الزائفة” لانتخاب بشار الأسد وأن تستمر في دعم الضربات الإسرائيلية، وقدرة «قوات سوريا الديمقراطية» على البقاء، ومساعدة اللاجئين.
بعيداً عن الانشغال المفهوم لإدارة بايدن بالمشاكل داخل الولايات المتحدة، ومع الصين وروسيا خارجها، يدور نقاش هادئ حول سياسة الإدارة الأمريكية تجاه الأزمة السورية التي لا تنتهي، بينما يتجه هذا النقاش نحو خاتمة. والسؤال الأساسي هو ما إذا كان يجب البقاء على المسار الحالي غير الحاسم، أو اختيار شيء مختلف.
تشير المحادثات الخاصة مع كبار المسؤولين من الأطراف المعنية إلى أن السؤال لم تتم الإجابة عليه بعد، مما يترك السياسة الأمريكية في وضع معلّق، أو في “تقدّم شبه آلي”، إلى أن يتم الانتهاء من المراجعة واتخاذ قرار. وفي الواقع، فإن عدم اليقين هذا بشأن النوايا الأمريكية هو الشيء الوحيد الذي يمكن لجميع الجهات الفاعلة الإقليمية الرئيسية في هذه المرحلة – أي العرب والإسرائيليين والأتراك والأكراد – الاتفاق عليه الآن.
وبعد عقد من متابعة الصراع السوري المأساوي، والتواصل المنتظم مع جميع الأطراف، توصّلتُ إلى الحُكم التالي – الذي أثار دهشتي وفزعي – وهو: يجب أن يكون القرار في الغالب المزيد من الشئ ذاته، مع إجراء بعض التعديلات على الهامش. ولن يحل ذلك الوضع المأساوي في سوريا. ومع هذا، فقد يمنعه من أن يزداد سوءاً – وهو ما يمكن أن يحدث بالفعل بشكل مثير للدهشة. وينصبّ التركيز هنا على نقاط القرار الدبلوماسية والأمنية الأكثر إلحاحاً اليوم. وسيتعين انتظار معالجة القضايا الأخرى الأكثر أهمية والمتوسطة الأجل – بما فيها التحديات الإنسانية والسياسية الرئيسية في المناطق النائية مثل إدلب ودير الزور والتنف ودرعا والسويداء – في مقال متابعة قريباً.
وفي الوقت الحالي، هناك ثلاثة تقلبات جديدة تدفع سوريا إلى احتلال موقع أهمّ قليلاً على جدول الأعمال. أوّلاً، “إعادة الانتخاب” القادمة لبشار الأسد لولاية أخرى أمدها سبع سنوات كرئيس، في أواخر أيار/مايو – ومرة أخرى بدعم روسي قوي. ثانياً، التصعيد في الاشتباكات المحلية بين «قوات سوريا الديمقراطية» التي يقودها الأكراد والميليشيات الموالية للنظام في القامشلي ونقاط أخرى في الشرق – ولكن من دون أي تهديدات أو تدخلات تركية، على الرغم من النجاحات الكردية الصغيرة حتى الآن. ثالثاً، هناك عودة متواضعة للغارات الجوية الإسرائيلية وعمليات تخريبية واضحة ضد الأهداف الإيرانية وأهداف للنظام في سوريا وحولها على حد سواء – وفي حالة واحدة لافتة للنظر، كرد انتقامي على إطلاق صاروخ سوري ربما كان مخطئاً حين أصاب موقعاً قريباً من مفاعل ديمونا النووي الإسرائيلي بشكل خطير.
وتعزّز جميع التطورات الثلاثة وصفتي القاتمة حول مواصلة المسيرة. فهي تميل إلى تأكيد مسألتَين رئيسيتين هما: أولاً، لا يمكن للولايات المتحدة الاعتماد على موسكو للمساعدة في سوريا. ثانياً، يمكن للولايات المتحدة، مع ذلك، الاعتماد على كلٍّ من إسرائيل و«قوات سوريا الديمقراطية»، ومن دون التعرض كثيراً في كلتا الحالتين لخطر التصعيد الكبير أو التداعيات السلبية على جبهات أخرى. لننظر إلى هذه الزوايا على التوالي، مع بعض التبسيط المفرط الذي لا يمكن تجنبه من أجل الإيجاز.
فيما يتعلق بـ”إعادة انتخاب” الأسد التي تلوح في الأفق، في الأيام القليلة الماضية، تكلّمت السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس غرينفيلد، بحزمٍ في مجلس الأمن الدولي ضد هذه العملية “غير المشروعة”. وكرر هذا الموقف الأعضاء الأوروبيون. لكنّ روسيا عارضته، مما شكّل الضربة الأخيرة للوهم الذي دام عقداً من الزمن والمتمثل في دقّ إسفين بين بوتين والأسد.
وهذا الموقف الأمريكي هو الموقف الصحيح، على الرغم من أنه لا يمكن إزاحة الأسد حالياً. إن نظامه مذنب بوضوح بارتكاب إبادة جماعية ضد شعبه، تماماً كما تصف إدارة بايدن الآن الإمبراطورية العثمانية، أو الحكومة الصينية. وفي حالة الأسد، ليس هناك أسباب تعويضية جيدة للقبول به على مضض على أي حال.
إن الأساس المنطقي الإنساني المفترض لهذا الأمر خاطئ إلى حدٍّ كبير. ومن شأن أي مشاريع لتخفيف العقوبات أو تأمين المساعدات أو إعادة الإعمار أن تفيد بشكل غير متناسب ذلك الطاغية القاتل وأعوانه، وليس الشعب السوري ككل – ولا تفيد بالتأكيد الستة ملايين لاجئين سوريين الذين طردهم من بلادهم، والذين ترتبط عودتهم الطوعية ارتباطاً عكسيّاً بإحكام الأسد قبضته على السلطة. وإذا أرادت الولايات المتحدة الاستمرار في مساعدة الشعب السوري، فعليها أن تحافظ على دورها القيادي كجهة مانحة لهؤلاء اللاجئين. كما عليها أن تأخذ في عين الاعتبار تحولاً واحداً على الأقل متعلق بالسياسات وهو: رفع العقوبات، وتعزيز التجارة والاستثمار، في تلك الأجزاء الكبيرة من البلاد خارج سيطرة نظام الأسد – سواء كانت تحت رعاية تركية أو كردية أو غيرها.
للأسف، تتجه “الجامعة العربية” والعديد من الدول العربية نحو استعادة بعض أوجه الاتصال مع دمشق. حتى أنّ إسرائيل ربما تفكر في اتخاذ إجراءات موازية، وإن كان ذلك من وراء الكواليس. لكن هذه التحركات لا تشكل سبباً يدفع الولايات المتحدة لاتخاذ مثل هذه الخطوات المتعثرة. وعلى عكس دقّ إسفين بين الأسد وإيران أو روسيا، يطرح هذا المسار خطر زيادة ترسيخ الوجود الإيراني والروسي في سوريا. وعلاوة على ذلك، يطرح حُكم الأسد خطر إطالة ذريعة تنظيمي «الدولة الإسلامية» و «القاعدة» والجماعات الجهادية الأخرى للتجنيد هناك. ولكل هذه الأسباب، فإن “إعادة تأهيل” الأسد، حسب عبارة تاليران الشهيرة، ستكون “أسوأ من الخطيئة – ستكون خطأً”.
وحتى إذا فقدت حملة الإطاحة بالأسد معظم زخمها في الوقت الحالي، إلّا أن جانبين آخرين من السياسة الأمريكية في سوريا يُظهِران المزيد من علامات النجاح، بتكلفة منخفضة للغاية. لذلك يجب على مراجعة السياسة الحالية أن تختار الإبقاء عليهما. الأول هو استمرار الدعم المتواضع لـ «قوات سوريا الديمقراطية» التي يقودها الأكراد في شمال شرق البلاد. وقد توقفت الجهود الأمريكية لـ “توحيد” الجماعات الكردية المتنافسة وغيرها هناك. ولا تزال بعض المدن الرئيسية في ذلك الجزء البعيد من سوريا، مثل الرقة ودير الزور، متنازع عليها. ولكن في الأسابيع القليلة الماضية، ثبّتت «قوات سوريا الديمقراطية» سيطرتها بشكلٍ أقوى من أي وقت مضى على مدينة القامشلي الرئيسية، بعد مناوشات مع ميليشيا «قوات الدفاع الوطني» الموالية للنظام و”المدعومة من إيران” هناك، وفقاً لما وصفه أحد كبار القادة [في «قوات سوريا الديمقراطية»].
وعلى نفس القدر من الأهمية، كان رد فعل تركيا على ذلك متحفّظاً للغاية. وهذا لا يعني أن تركيا تدعم السياسة الأمريكية في سوريا؛ على العكس من ذلك، بعد الضغط على مسؤول أمريكي لإعطاء أمثلة حول التعاون الحالي مع أنقرة، أشار إلى حالتَي أفغانستان وأوكرانيا، بدلاً من سوريا، أو أي قضية أخرى في الشرق الأوسط. وفي الواقع، أعاقت تركيا بنشاط الجهود الأمريكية لتوحيد الفصائل الكردية السورية (أو على الأقل فضّ الصراع)، خوفاً من أن يؤدي ذلك إلى تعزيز نفوذ «حزب العمال الكردستاني» عبر حدودها بدلاً من تخفيفه.
ومع ذلك، ففي الأيام الأخيرة، اتخذت الخطابات الرسمية التركية بشأن هذه القضية الشديدة الحساسية منعطفاً أكثر هدوءاً – حتى في الوقت الذي تصعّد فيه تركيا هجماتها ضد «حزب العمال الكردستاني» داخل العراق. وعلى نحوٍ مماثل، يشير رد الفعل المعتدل على اعتراف بايدن بالإبادة الجماعية للأرمن إلى الرغبة في تجنب المزيد من الانقطاع عن واشنطن، حتى في الوقت الذي تستمر فيه العلاقات التركية-الروسية في التوسع. ونتيجة لذلك، يبدو أن تركيا، على الرغم من عدم تصالحها مع «قوات سوريا الديمقراطية» في سوريا كما في 2014/2015، ستؤجل اتخاذ المزيد من الإجراءات ضدها.
وهذا بدوره يجعل من المنطقي بصورة أكثر التمسك بالوجود الفعلي الأمريكي المحدود للغاية في شمال شرق سوريا، ودعم «قوات سوريا الديمقراطية» هناك. إنه أمر ضروري لكي تصمد «قوات سوريا الديمقراطية» ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» والأسد وروسيا وإيران. إن الفائدة العملية لموطئ القدم هذا هي الربح، بالنظر إلى تكاليف التخلي عنه: أي الخطر المعنوي والضرر الاستراتيجي اللذان يهددان مصداقية الولايات المتحدة عند التخلي عن أحد الحلفاء، خاصةً في ضوء الانسحاب العسكري الأمريكي الذي يلوح في الأفق من أفغانستان.
وأخيراً يقودنا ذلك إلى الجانب الآخر للسياسة الأمريكية في سوريا الناجح نسبيّاً، والذي يجب الحفاظ عليه أيضاً وهو: إعطاء “الضوء الأخضر” للعمليات الإسرائيلية ضد الصواريخ والميليشيات الإيرانية والأهداف ذات الصلة هناك. فهي لا توقف إيران، لكنها تحدّ من التهديد الذي تشكّله ليس فقط على إسرائيل، بل على المنطقة بأسرها أيضاً. ومن الواضح أنها لا توقف المفاوضات النووية مع إيران أيضاً. وهذه المرة، انقلبت المقاييس: فبدلاً من رضوخ الولايات المتحدة لدعم إيران للأسد، من أجل التوصل إلى اتفاق نووي، أصبحت إيران الآن هي التي تتريث، وتبقى على طاولة المفاوضات النووية، بينما تضغط إسرائيل على وجودها داخل سوريا. وخلاصة القول، في حين لا تطرح السياسة الأمريكية في سوريا في المرحلة القادمة سوى احتمالية ضئيلة جداً للإطاحة بالأسد، إلا أنها لا تقدّم أيضاً أي سبب وجيه لإضفاء الشرعية عليه. وفي الوقت نفسه، فإن الحفاظ على العلاقات الأمريكية مع «قوات سوريا الديمقراطية»، وزيادة جدواها الاقتصادية، يخدمان المصالح والقيم الأمريكية على حدٍّ سواء، مع التعرض لخطر مقبول وتكبد تكلفة معقولة. وهو الأمر بالنسبة للحفاظ على الدعم الضمني للعمليات الإسرائيلية في سوريا. إن الاستمرار في هذا المسار سيحافظ على نفوذ الولايات المتحدة ومصداقيتها داخل سوريا وخارجها، ضد جميع الجهات المعادية – أي تنظيم «الدولة الإسلامية» والأسد وإيران – بينما يساعد إدارة بايدن بشكلٍ أقوى وأكثر حرية في انتهاج الدبلوماسية مع القوى الإقليمية والعالمية بشأن المسائل الملحة الأخرى المثيرة للقلق.
ديفيد بولوك هو “زميل برنشتاين” في معهد واشنطن ومدير “مشروع فكرة”. وتم نشر هذه المقالة في الأصل على موقع “نيوزلوكس”.