من مخبئه أطلّ نصرالله مفتتحاً خطابه المشحون بجرعة عاطفية تعبوية، بمناسبة أربعين الحسين، مكتشفاً أن بعلبك كانت قد استقبلت رأس الحسين والسبايا. وأن بعلبك “المستشرفة” كان لها شرف الوقوف بوجه اعداء الحسين وكشف كذبهم منذ مئات السنين!! كل يوم يكتشف السيد نصرالله وصحبه ذكرى شيعية جديدة وموقعاً جديداً ليكون محطة من محطات أحزان الشيعة وآلامهم الماضية. وكأن واجب الشيعة الغرق في الأحزان العائدة إلى مئات السنين. لكن ماذا عن حاضرهم المحزن بالرغم من الانتصارات الإلهية؟ من طهران، مروراً بالعراق وصولاً إلى لبنان؟ ماذا عن عذاباتهم الراهنة التي رموها بوجهه؟ اختار بالطبع أن يتجاهلها ويمعن في نكران الواقع الشيعي الذي انفجر بوجهه.
بدا أن ما يعيشونه لا يهمّ السيد نصرالله. تجاهُلهُ للنقد الجارح الذي وُجِّه إلى حليفه نبيه بري، يدل إما على عدم اكتراث بجمهوره وإما على تأزم يداريه بالتجاهل والمكابرة.
نسي في غمرة انهماكه في إدارة حروبه وفي إعطاء الإرشادات لشريكه في الحكم أنه لم يحقق أياً من الوعود الانتخابية التي أغدقها على جمهوره. لذا نجده تجاهل مساءلتهم له حول وعوده الانتخابية بمكافحة الفساد وتحسين أوضاعهم، فلم “يسمع” سؤالهم عن معنى الحديث عن الكرامة والانتصار فيما تمتهن كرامتهم ويُحرمون ابسط الحقوق التي تؤمنها أفقر الدول. وفيما تناسى مَن سَأله نسيتنا في غمرة مقاتلتك الأعداء في إسرائيل! ألا تعلم ان الأعداء هنا في الداخل؟ اختار ان يتوجه الى قسم ضئيل من جمهوره الذي نزل معاتباً بخجل ومطالباً زعيمه الزمني والغيبي، لماذا لم تنزل معنا؟
اكتفى هذه المرة بذكر إيران في معرض تبرير عدم نزوله إلى الشارع خوفاً من اتهامها بالرغبة بتخريب الوضع اللبناني!! نصرالله لا ينسى الدفاع عن ربيبته حتى في معرض تنبهه إلى وجود شعور اسمه “الحس الوطني”. تنبه أخيراً إلى أنه لبناني وأن هذا يفترض امتلاكه وحزبه “الحس الوطني”. شعر بالتهديد فاستنفر كي يحافظ على التسوية وعلى لبنان الذي خدمه وخدم إيران باعتراف الإيرانيين أنفسهم.
الفكاهة أنه طالب المتظاهرين الذين نزلوا حاملين العلم اللبناني وبعيداً عن أحزابهم وأدانوا الطبقة السياسية بمجملها، بالانفصال عن الأحزاب السياسية وبالحفاظ على السلمية وعلى أملاك الدولة كما بالامتناع عن الشتائم!! هذا في الوقت الذي كان فيه أزلام شريكه في الثنائية يعتدون على المتظاهرين السلميين في صور والنبطية ويلاحقون البنات ويضربونهم. حليفه الذي رد بالعنف على الكلمة. وراكبو الدراجات المتهمون بانتمائهم لمحوره يهاجمون ساحة رياض الصلح ويعتدون على رجال الأمن.
نصح الطبقة السياسية بالعمل سريعاً وإلا سينفجر الشارع. سماحته لم ينتبه إلى أن الشارع “انفجر” وانتهى الأمر. ربما يقصد التقليل من أهمية الحراك الذي يشبه انتفاضة 14 آذار. ففي حين أخرجت انتفاضة 2005 الجيش السوري، نجد الانتفاضة الآن تريد استعادة الدولة اللبنانية التي صادرتها الطبقة السياسية بجميع مكوناتها.
نصرالله لا يريد الاعتراف بكل ذلك ويعمد إلى ممارسة التوجيه والإرشاد وإعطاء الدروس والعلامات لجمهور بدا واضحاً أنه معادٍ للطبقة السياسية برمتها وعلى رأسها حزب الله. أعطاهم علامة جيد كتلامذة المدارس: ما أنجزتموه حتى الآن مهم جداً!! ربما هي كلمة السر لجموره: عودوا إلى بيوتكم.
ولم يجد أمامه سوى اللجوء إلى التهديد، فتوجه إلى اللبنانيين أنهم لن يتمكنوا من تغيير هذه الطبقة السياسية ومن الأفضل لهم عدم تغيير الحكومة لأنها ستتجدد وستأتي حكومة مماثلة لها ولو أجروا انتخابات جديدة سيعود نفس النواب. متناسياً الجهد الذي بذله في الانتخابات الماضية كي يؤمن نجاحه فيها.
أما الإصلاح! فسماحته فوجد أن موازنة 2019 التي كانت قاسية وإصلاحية! وبما أن “كل شي بيجي بوقته”، إذن لم يحن بعد وقت الإصلاح.
أما المشكلة مع التكنوقراط فهي بمن يعطي الأوامر للوزير! فالوزير بالنسبة لنصرالله عبد مأمور بالطبع عند من يسميه. ألم يوقع وزراء التيار الحر على استقالتهم في حال لم يطيعوا رب نعمتهم؟ هذا هو مآل الديوقراطية اللبنانية العريقة.
كما انه انتهز خبرية أن البعض طالبه بالنزول إلى الشارع، كي يتوعد: نحن إذا نزلنا ما فينا نطلع. نحنا مننزل إذا فرضوا ضرائب!! انتو نزلتوا وطلعتوا!! هذا في حين أوردت رويترز أن أعداد المتظاهرين في لبنان بلغت مليوناً و200 ألف. ويبدو أن أعداد المتظاهرين تضاعف إثر خطابه المستفز. تماماً مثلما تضاعفت أعداد المتظاهرين في صور إثر اعتداء ميليشيا أمل عليهم.
أما مفهوم “تحمل المسؤولية”، فتعني تهديد كل من يريد الاستقالة الآن بالمحاكمة!! سماحته “سيحاكم” من يستقيل!! ونصرالله يمنع سقوط هذا العهد: العهد لن يسقط، ما فيكم تسقّطوه. نسي أن ينهي أوامره بـ “النقطة عالسطر”.
توالت التعليقات على خطابه المستفز، فأعلنت صبية: كلام السيد نصرالله استفزنا وأهان كرامتنا. وعلق أحد المتظاهرين من طرابلس على كلامه: “كنت أحترم السيد نصرالله لكن بعد 30 سنة سرقات ونهب وسكوته عنهم أوصلنا إلى هنا. هل الحزب يصنع فقط الشهداء؟ أما أحد مناصريه فعلق: سيد حسن، ما فيك تكون معنا ومع الفاسدين بنفس الوقت. عليك أن تختار.
ردوا عليه من عاليه: بدي قول لنصرالله: نحنا بدنا الكل برا، وأنت واحد منهم وما تهدد بالشارع. وأيضاً: الحكومة ما بتسقط، ليه؟ لأنه حاميها هو وإيران وراءه؟
خطاب السيد نصرالله يعبر عن شعور بالأزمة وارتباك أمام الطوفان الشعبي الذي وضعه وجهاً لوجه أمام جموره الذي كان يحتمي به؛ وجهاً لوجه أمام اللبنانيين. الأمر الذي يهدد بزوال العهد الذي ناضل طويلاً لفرضه.
لننتظر المقبل من الأيام لنرى هل ستنتصر إرادة الشعب اللبناني أم إرادة السيد نصرالله الذي أعلن بالفم الملآن أنه الحاكم بأمره. أم هل سيتم فرض تطور أمني يهدد الوضع بمجمله!