يطغى على تناول الموضوع الفلسطينيّ– الإسرائيليّ عنوانان ثابتان:
– إمّا العنوان النزاعيّ والعنفيّ، من التوسّع الاستيطانيّ إلى الطعن بالسكاكين، ومن الانتفاضات وقمعها إلى الاستعدادات والخطط الحربيّة،
– وإمّا الجهود الديبلوماسيّة، الجدّيّ منها وغير الجدّيّ، ومواقف الدول الكبرى وقرارات الأمم المتّحدة…
حتّى الشقّ المتعلّق بتناقضات في السياستين الإسرائيليّة والفلسطينيّة، وفي أحزابهما وقواهما، لا يلبث أن ينضوي في العنوانين المذكورين.
في المقابل، يقلّ حضور التناول الثالث، الذي ينمّ عنه نشاط سينمائيّ أو فنّيّ، أو خبر عابر مداره الرياضة أو المطبخ أو الأزياء أو حبّ وزواج بين اثنين، ولا تلبث أن تطويه الأحداث الكبرى.
«كيف نموت؟» يمارس غلبة كاسحة على «كيف نعيش؟».
وهذا ما يوحي، بل يقطع، بميل عميق وعريق إلى نزع الأنسنة عن الصراع المذكور. فالمتطرّفون في الطرفين حوّلوا ويحوّلون النزاع إلى مجرّد ساحة مفتوحة للقتل والقتال، للعدوان وردّ العدوان. هنا، لا يُقَرُّ بوجود حياة تفيض عن الحرب، حياةٍ تنطوي على تداخل يطاول جوانب عدّة في مجالات العمل والدراسة والاستشفاء والمأكل والمشرب والحبّ…
ما يُقَرّ به ويُعمَل بموجبه هو وجود نزاع قَبَليّ يستمدّ استمراره من عنف لا ينتهي ولا يُحلّ، عنفٍ تعود نشأته إلى 1967، بل إلى 1948، بل إلى بدايات الهجرة اليهوديّة إلى فلسطين. وما لا يُتّفَق على بداياته يصعب التكهّن بنهاياته.
صحيح أنّ تصوّراً كهذا يواجهه، فضلاً عن نازعي الأنسنة في الجانبين، تاريخ دمويّ وقضم متواصل للأرض وتراتُب فرضه الاحتلال يتخلّل بعض وجوه التشارك نفسها. لكنّ الصحيح أيضاً أنّ صراعاً امتدّ على عشرات السنين، وفوق رقعة أرض صغيرة، يستحيل أن يكون بخيلاً إلى هذا الحدّ في كلّ ما ليس قتلاً وقتالاً، وأن يكون غنيّاً إلى هذا الحدّ في تصليب التوحّش المتبادل وتعميقه.
بادرة من البادرات القليلة في توكيد الإنسانيّة الجامعة ظهرت قبل يومين. لقد شاركت آلاف النساء الفلسطينيّات والإسرائيليّات في مسيرة عبر الصحراء إلى ضفاف نهر الأردن من أجل السلام. وأضافت «بي بي سي» في تغطيتها الخبر: «كان معظم النساء يرتدين ملابس بيضاء، وقد نزلن من التلال القريبة باتّجاه ضفّة نهر الأردن حيث نصبن خيمة أطلقن عليها اسمي «سارة وهاجر». وقالت مارلين سماجا، مؤسّسة منظّمة «نساء من أجل السلام»: «نحن نساء من اليسار واليمين، يهوديّات وعربيّات، من المدن والأرياف، وقد قرّرنا منع نشوب الحرب القادمة».
المنظّمة هذه، التي تأسّست بعد الحرب الأخيرة على غزةّ عام 2014، استطاعت أن تحشد خمسة آلاف امرأة يكرهن الحرب، تتويجاً لفعاليّات أطلقنها في الشهر الماضي في أماكن عدّة، وسوف تصل إلى ذروتها أمام مكتب رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتانياهو في القدس.
النساء هؤلاء لسن متّفقات على كلّ شيء، بل هنّ يختلفن حول بعض الأساسيّات. مع هذا، هنّ متّفقات على رفض الحرب والعنف وسيلةً لحلّ النزاع. موقعهنّ في الحياة المدنيّة وغير العنفيّة ودورهنّ في تلقّي الحزن على فقد الابن والزوج يجعلان حساسيّة النساء أعلى حيال السلام.
هناك، بالطبع، كثيرون ممّن يدينون تحرّكاً كهذا. هناك من يتّهمونه بالتفريط. هناك من يتّهمونه بالفولكلوريّة أو بالطوباويّة. لكنّ أمرين يبقيان مؤكّدين: أنّ تزايد أفعال كهذه وتصاعدها يحدّان ممّا يبدو اليوم طوباويّاً وفولكلوريّاً فيها، وأنّ كلّ تراجع في أيديولوجيا «الرجولة» و «البطولة» وتأثيرها يبقى مفيداً، مفيداً للبشر ومفيداً للمستقبل.
* نقلا عن “الحياة”