جادة الفرنسيين، بيروت – ثلاثينات القرن العشرين
خدمة للقارئ العربي نواصل تقديم هذه الشهادات الصحافية العبرية التي تكشف الكثير من أجواء الأحداث التي عصفت بالبلاد في سنوات الثلاثينات من القرن المنصرم.
هذه المرّة نقرأ في صحيفة “هبوكر” الصادرة في ديسمبر من العام 1938 عن أجواء الجالية الفلسطينية في بيروت، وعن القصر السرّي الذي مكث فيه المفتي الحاج أمين الحسيني بعد هروبه من فلسطين متنكّرًا بلباس امرأة.
س. م.
*
غابرييل صفروني ||
القصر السرّي في كفر جوز
الجالية العربية في بيروت مبعثرة في كلّ أنحاء المدينة. يمكنك أن تعثر على فلسطينيين في الفنادق المختلفة في الضواحي، في الحارات، ولكن أيضًا في مراكز المدينة. تستطيع أن تجد عمارات كاملة يسكنها لاجئون فلسطينيون. الدافع الداخلي قد فرز ورتّب اللاجئين استنادًا إلى توجّهاتهم السياسية والحزبية – كلّ حزب في حارته. وهكذا تشكّلت الحياة الاجتماعية للجالية، التي توحّدها فقط أصداء البثّ الإذاعي المقدسي على موجات الأثير الخفيّة. ساعات البثّ الرسمي من القدس أضحت كما لو أنّها أمر غير منصوص وموقّع كـ«خدمة فلسطين» في بيروت. في ساعات الظهيرة، وأيضًا في المساء، عندما يُعلن المذيع في القدس عن الأخبار، يستمع إلى أقواله آلاف المهاجرين. عندما أمرّ في هذه الساعة في عدّة شوارع، أشعر كما لو أنّي في القدس أو في يافا، مع اختلاف الأجواء والمناخ السياسي.
في منطقة ”رأس بيروت“ استوطن أتباع المفتي المتلهّفين ولهم لقاء ثابت في مقهى صغير قرب الجامعة الأميركية. إنّّهم مجموعة صغيرة وخاصّة من ”الأتباع“ الذين خرجوا في إجازة. بعضهم ”أبطال“، وهم في الواقع قد هربوا خوفًا من السجن والمحاكمة. وكلّ أملهم هو – الحاج أمين، وفحوى حياتهم – القلاقل في فلسطين.
المعارضون للمفتي، على كافّة أشكالهم، من جميع الأحزاب والطوائف، مُبعثرون في مراكز المدينة وفي القرى الكثيرة في الضواحي. ولكن لهم أيضًا مكان اجتماع ثابت – إنّه مقهى ”الحمرا“ الكبير المبنيّ على شاطى البحر في نهاية ”جادة الفرنسيّين“ الرائعة. هنا يلتقي أيضًا الحياديّون اللامنتمون، أي كلّ أولئك الهاربين جرّاء نوائب الدهر في فلسطين، والباحثين عن العيش بطمأنينة في مكان أيًّا كان، أكان ذلك في لبنان، في قبرص أو في مصر، بشرط ألاّ يمسّهم أحد بسوء.
هنالك أيضًا مكان لقاء ”مختلط“ لكلّ اللاجئين. إنّه مقهى ”نجار“. تخرج منه زرافات إلى المقاهي القريبة المكتظّة بفائض من الفلسطينيين في ساحة البرج.
غير أنّ نقطة الاشتعال الحقيقية للجالية العربية ملتهبة غير بعيد عن بيروت في منطقة صغيرة تسمّى ”جوز“، على مقربة من من بلدة لبنانية لطيفة هي ”جون“. “جوز” هي مكان مكوث رئيس بيت الحسينية، ”المنفيّ في لبنان“، والذي كان مفتي القدس، وفي بعض الأوساط السياسية وراء البحر المتوسط لا يزال يظهر بهذا اللقب.
لدى تجوالي بين اللاجئين في بيروت لم اتصرّف باستخفاف فيما يتعلّق به. بحثت عن فرصة لزيارة ”جوز“، وكانت بداية طريقي إلى هناك.
سائق السيّارة الذي ظهرت بشائر خبثه عبر فائض لطافته الجامدة، سألني: إلى أين؟ أجبت بصورة عفوية وبلا مبالاة: ”إلى جوز“. التفت إليّ وسأل كما لو كان خبيرًا بالأمر: ”جورناليست، ها؟“. أجبت إجابة عارف معتاد على مثل ذلك: ”نعم“. عندئذ تفحّصني بنظرته ووافق: ”طيّب، سأسافر“، ولكنّه حذّرني فورًا: ”الشرطة لن تسمح لنا بالاقتراب من البيت…“.
استغرقت السفرة إلى جوز ساعة من الزمن. في الطريق استملتُ قلب السائق بكيل المديح على سياقته الآمنة، وهكذا خلال السفرة بدأ يتحدّث عن النّاس في جوز. خلال الشهرين المنصرمين، قال لي، سافرت عدّة مرّات إلى جوز، وأضاف:
”حقًّا محظوظة تلك العجوز التي نجحت جيّدًا في تأجير قصرها المهجور… لقد خافت العجوز أن تسكن لوحدها في القصر وانتقلت إلى بيروت. بحث محاميها عن جيران حتّى عثر على جار واحد جيّد… فاشتهر البيت في كلّ العالم“… لقد كان السائق فخورًا جدًّا، كما لو أنّه شريك بصيت القصر. قلت له: إذا نجحت في الاحتيال على القانون والمرور أمام ”البيت“ لن أدعك تخرج صفر اليدين منّي.
على بعد بضعة عشرات من الأمتار أشار السائق إلى ڤيلا من طابقين محاطة بجدار حجري عالٍ، وأشجار باسقة تخفي ضخامة البيت من جهاته الأربع. العين تلتصق فورًا بهذا البيت، الجاثم موصدًا مغلقًا، والمختوم بختم السرّيّة أمام العالم الخارجي. كلّ ما يدور بداخله تبتلعه حيطانه وجدرانه. لبرهة صغيرة تختلط المصطلحات. ثمّ يبدو لك حقًّا هذا القصر العاديّ اللبناني غارقًا بالسرّيّة. ساكنوه الجالسون بداخله هم الذين يجعلونه سرّيًّا لذاته. من ذا الذي يلج غرفه الداخلية وينتشل منها كلّ ما يجول فيها؟ الكثير من الأضواء كانت ستُلقى على تاريخ فلسطين خلال السنوات الثلاث الأخيرة.
مع اقترابنا من قصر الحسيني لاحظنا أشخاصًا يقفون على السطح وعلى الجدار. قبل أمتار معدودة من انحرافة الطريق المفضية إلى القصر أوقف السيارة شرطيّان وسألا السائق، إلى أين يسافر؟ أجاب السائق بصورة عفوية أنّه يأخذ مُسافره لرؤية قطعة أرض معروضة للبيع في هذه المنطقة.
فكّر الشرطي قليلًا، وأخبر السائق بملء الجديّة أنّه لا يمكن العبور أمام القصر بدون إذن، غير أنّه تراجع عن رأيه، تفحّص داخل السيّارة ثمّ سمح لنا بمواصلة السفر.
مررنا أمام القصر مرّتين، بينما كانت عيون الحرّاس الكثيرين تتعقّب سير السيّارة البطيء.
في محطّة بيع البنزين القريبة من المكان رووا تفاصيل مثيرة عن الحاشية الغريبة التي تسكن داخل القصر. خمسة أفراد من الشرطة السرّيّة المركزيّة اللبنانية يحرسون ليل نهار المنطقة ومدخل الحديقة. لا يسمحون لأحد بالدخول دون تصريح خاص من دائرة الأمن اللبنانية. القلّة من أصحاب التصاريح يتمّ تسجيل زياراتهم من قِبَل أحد أفراد الشرطة السرّيّة. إضافة إلى الشرطة السرّيّة يوجد في الداخل 44 حارسًا، بينهم 11 من الحرّاس الدائمين داخل القصر.
ستائر النوافذ – هكذا قصّوا عليّ – دائمًا مُسدلة، حتّى في النهار. الحاجّ أمين نفسه يخشى، على ما يبدو، حتّى من ظلّه هو، وحارسه لا يتركه حتّى بانتقاله من غرفة لأخرى. وفي الليل ينام الحارس في غرفة الحاجّ، بجانب الباب بسلاحٍ حاضر. لا يُترك القصر بلا حراسة شديدة حتّى للحظة واحدة.
قبل عدّة أيام حضرت إلى جوز وبوتيرة عالية سيّارات فاخرة خرجت منها شخصيّات رفيعة. طوال يومين مرّت السيارات ذهابًا وإيابًا. ”شخصيّات كهذه تحضر في هذا الأوان كثيرًا“، قال لي أبناء المكان هنا. ومنذئذ – من يومين – لا توجد حركة. سيّارته هي الأولى التي مرّت في المكان. لكن يوجد سيّارة مع نمرة فلسطينية تحضر للمكان مرّتين في الأسبوع.
مُزوّد القصر بالغذاء لا يشتري الاحتياجات من مكان ثابت. كلّ يوم يغيّر البقّالين والباعة، خوفًا من تسميم الغذاء. إنّ ذُعر ساكني القصر قد شاع على ألسنة أهل المنطقة. حدث غير مرّة أن أضلّ حمار الطريق، أو كبش أضاع طريق قطيعه فوصلا إلى الجدار، فيسارع الحرّاس، المتنصّتون بتأهّب إلى خرفشة الأصوات في الجدار، بخطوات هادئة إلى الموقع، خشيةً من معارضٍ مُغتال – فيعثرون على حمار متواضع يقضم البرسيم في طرف الحقل القريب.
فضلًا عن مجريات الباحة الخارجية للقصر لا أحد يعرف شيئًا عن المفتي سابقًا. حتّى اللاجئين الفلسطينيين يستقون معلوماتهم عن الحاجّ أمين من رسائل تصل من مصر.
لقد ضرب الذعر بالمفتي وبأتباعه، كما يروون، لدرجة أنّ موسى العلمي الذي تزوّج شقيقة جمال الحسيني، والذي كان المستشار القضائي لفلسطين، قد استأجر هو أيضًا حارسين اثنين لنفسه يرافقانه ليل نهار حيثما سار. روى لي شهود عيان أنّ أبناء عائلة الحسيني، لدى دخولهم القصر، يتمّ فحصهم أيضًا وفحص جميع أمتعتهم.
*
الأحاديث العادية حول السياسة الفلسطينية تدور بصورة دائمة في المقاهي التي ذكرتها. في ”الحمرا“ يمكن الالتقاء بأبناء العائلات الغنيّة، عائلة النابلسي، بدس، حناوي، وكثيرات أخر. يستريح هؤلاء على الأرائك بينما صفوف سيّاراتهم الواقفة في المدخل تحمل النُّمَر الفلسطينية البيضاء.
حول طاولات ورق الشدّة تلتئم المجموعات وبينما تُلقى الأوارق على الطاولة يتلفّظ المجتمعون بملاحظات سياسية لاذعة جدًّا.
في إحدى الزوايا وجدت أحد الأغنياء العرب، وهو عضو بلدية مهمّة قبلئذ، رجل محترم لدى المعارضة العربية.
جلس وحيدًا في زاويته وتمعّن الصحافة العربية المحلية التي نشرت في اليوم ذاته نداء إلى السوريّين من طرف لجنة الدفاع عن عرب فلسطين، داعية إلى تقديم العون إلى ”الأشقّاء الثائرين في جنوب سورية.“
سألته: كيف الحال؟ أجاب: شكرًا، كلّ شيء على ما يرام.
سألته: أليس في الأمر مخاطرة إن جلست بجانبك في هذا المكان العام؟
أجاب: على العكس، سيرى الجميع بأنّي لا أخشى… إنّ يده أقصر من تطالني هنا…
”الحاجّ أمين يريد سلطة فرديّة وخاصّة به“، قال لي محدّثي ”ولذلك فقد أحاط نفسه بجَهَلة وسخفاء لكي يقف على رأسهم. أمّا الباقون الذين يعترضون طريقه فقد قرّر إبعادهم… لكن لن يدوم له ذلك…
”حتّى بين الثوّار أبقى أتباعه فقط. وفخري عبد الهادي، أحد قادة الثورة سنة 1936، أُزيح جانبًا، وتعرّض مرّة لمحاولة اغتيال… وأضحى عبد الرازق قائدًا بمعاش لاغتيال أشخاص بريئين، الذين ينعتهم الحاج أمين بالخيانة… سيأتي يوم ويتلاشى تأثيره. كلّ هؤلاء “العبيد“ الذين رفعهم سيركلونه…
”من مؤتمر الطاولة المستديرة لم ينتج شيء ذو فائدة لعرب فلسطين. موفدو الملوك العرب معنيّون كلّ واحد منهم بنصيبه وأرباحه من القضيّة الفلسطينية… الوحيد المعنيّ حقًّا بحلّ القضيّة الكئيبة هو الأمير عبد الله. غير أنّ تأثيره على عرب فلسطين ضئيل…
”وهل سيأتي الفرج والإنقاذ لفلسطين من الملك ابن سعود؟ إنّ زيارة الدوق والدوقة ماتلون للسعودية كلّف ستّين ألف ليرة، لكن طوال فترة الأحداث لم يرسل ابن سعود ولا حتّى ليرتين لمساعدة المصابين العرب…
”صحيح أنّ مواقف مصر والعراق ستكون الحاسمة في هذا المؤتمر، ولكن على جميع الأحوال ستنتهي بدون نتائج، وستُضطرّ الحكومة فرض قرارها على السكّان… بينما في هذه الأثناء سيعمّ الخراب في البلاد… الكتائب التي تبعثرت تُثقل على القرويّين وتضطهدها بلا رحمة. ”حكيم السياسة“ عبد الرازق قرّر عدم أخذ تصاريح سفر، فتوقّفت الحركة… وكلّ ذلك لماذا ولأيّ هدف؟ لا أحد يعرف، ولا يوجد من يُقدّم حسابًا على أعماله…
”وفوق كلّ ذلك: أكثر من ألف لاجئ عربيّ في سورية ومصر قد حكمت عليهم كتائب الثوّار بالإعدام في فلسطين وأُحلّت دماؤههم…
محرّرو الصحف العربية الذين جاهدوا لأجل إنقاذ عرب فلسطين موجودون في المنفى وأبيحت ممتلكاتهم. من عمل أكثر من إبراهيم الشنطي، محرّر ”الدفاع“؟ وهو الذي أنشأ ”الحرس الوطني“ في يافا، والذي بادر إبّان الإضراب العام إلى تنظيم الشباب في جميع البلاد، ولهذا الشخص يقول هؤلاء السَّفَلَة – ”أنت خائن“… ولكن عمّا قريب سيقتل أحدهم الآخر… والأموال التي اكتنزوها قد سارعو إلى نقلها إلى البنوك خارج البلاد… غير أنّ كلّ ذلك سينكشف…
”لقد أخطأت المعارضة العربية خطأ مصيريًّا بأنّها لم تقف على رأس العرب بعد أن تمّ نفي أعضاء الهيئة العربية العليا إلى سيشيل، وبعد أن هرب المفتي بثياب امرأة إلى لبنان.
لقد تصرّف رجال المعارضة بجنتلمانية تامّة ورفضوا تسلّم السلطة. فماذا كان مصيرهم؟ لقد أُجبروا على الهرب من البلاد… حتّى سليمان طوقان رئيس بلدية نابلس، هذا الشخص الهامّ قد هرب من البلاد خوفًا من الحسيني المُختبئ في لبنان في ظلمات بيته…
***
الأمر مختلف تمامًا في مقهى الحسينية الواقع في ”رأس بيروت“. يجلس هناك اللاجئون، يرتشفون القهوة ويدخنون الأراجيل بإحساس من الأهمية الذاتية المفرطة. ومئات الأقاصيص عن بطولات ”الأبطال في الجبال“، وعن شجاعتهم، تنساب على ألسنتهم من الصباح حتّى المساء. تسمع هنا أحيانًا أسماء أشخاص قد سُجنوا لدى محاولتهم تهريب أسلحة إلى فلسطين، واسم سعيد الشوّا، من زعماء غزّة يدور على ألسنة الجميع. فقبل أسبوع فقط حُكم عليه بالسجن لسنتين، بعد أن قُبض عليه مع حمل أسلحة كبير على مقربة من الحدود الفلسطينية.
يعلم اللاجئون هنا جيّدًا أنّ للثوّار عملاء استخبارات في سورية – ولاؤهم لهم فقط، وهنالك عملاء سرّيون للثوّار بين كلّ أصناف اللاجئين. لهذا السبب يحذر الكثيرون من اللاجئين بأقوالهم وأفعالهم أيضًا في بيروت.
***
في ساعات المساء يمكن الالتقاء هنا بـ”زهرة الشبّان“ من يافا والقدس – أولئك الذين عجّت بهم قبلئذ المقاهي في تل-أبيب. سيّاراتهم النظيفة، تلمع أيضًا في شوارع بيروت، مثلما لمعت في تل-أبيب. يشعرون بمرارة من أنّّهم اقتُلعوا من المدينة العبريّة. يتذمّرون من أنّهم ليسوا المسؤولين عن توقّف تعلّمهم اللغة الألمانية… لكنّهم هنا، في بيروت، يدردشون بالألمانية…
*
مصدر: جريدة ”هبوكر“، 20 ديسمبر 1938
*