لم يصمد حاكم البنك المركزي عند قرار ايقاف دعم المحروقات التي تحرق اموال واعصاب واجساد اللبنانين اللاهثين وراء قطرات من طاقة يسيرون بها عجلات حياتهم المتحولة جحيما عونيا، اين منه جحيم دانتي!
فمحرقة « التليل » في عكار حصدت اكثر من مائة ضحية بين قتيل ومصاب وشبّهها كثر بـ« ميني مرفأ ». فذهبوا بالمقارنة بين النيترات التي اوتي بها لتغدية الات القتل والاجرام خصوصا السورية، وانفجر ما تبقى منها بانفجار مروع دمر وقتل واصاب وشرد عشرات الالوف، وبين المحروقات التي تغذي خزائن الميليشيا والمافيات والكارتيلات، وترسل في السر والعلن الى سوريا لتضخ في شرايين اقتصاد النظام المجرم بحق الشعبين الشقيقين. ونمر بهذه الأيام بذكرى إحدى جرائمه الارهابية امام مسجدي التقوى والسلام في طرابلس والتي زرعت الدمار وخلفت المئات من الضحايا.
واذ تكاد جريمة المرفأ ان تكون غير مسبوقة عالميا بمقاييس وابعاد كثيرة، فان ما يزيد الوجع والقهر في جريمة التليل هو في ان ادواتها الحارقة مدفوعة الثمن من اموال الناس وهم يذلون وتحرق اعصابهم امام المحطات والمولدات والصيدليات والمستودعات المتحولة الى قنابل موقوتة في هدا الجحيم الرهيب.
لم يكن صعبا على رئيس الجمهورية ان يتنبأ بوصول لبنان الى الجحيم، فهو جنرال وسياسي مخضرم، لمع نجمه خلال الاجتياح الاسرائيلي، ثم في حرب الجبل وسوق الغرب خصوصا، ولاحقا كقائد جيش ورئيس حكومة عسكرية طائفية، ثم كمفجر حربي الالغاء والتحرير اللذين اديا لتهجير الكثيرين وخصوصا المسيحيين، وصولا للجوئه للسفارة الفرنسية بعد ان اقتحمت القوات السورية قصر بعبدا وقصفته بالطيران، وما رافق ذلك من قتل واعتقال واخفاء.
والرئيس عون هو الجنرال المنفي، والعائد بعد زلزال اغتيال رفيق الحريري وانتفاضة ١٤ آذار واخراج القوات السورية من لبنان، وبعد أن عقد تسوية مع جماعة الممانعة، رافقها ثورة مضادة قام بها حزب الله وتخللها تفجيرات واغتيالات وصولا “لذمية مار مخايل” في ٦-٢-٢٠٠٦(والملفت أنها أعلنت بعد يوم من مسيرة سنية مخترقة في الاشرفية حيث السفارة الدانماركية استنكارا للرسوم المسيئة للرسول محمد مما اضاء على بعدها الأقلوي).
والرئيس عون هو السياسي العنيد الذي عارض اتفاق الطائف وشارك بقوة بكل الحكومات بعد اتفاق الدوحة مع حليفه القوي، والذي فرضه رئيسا بفائض قوته المسلحة وبعد فراغ رئاسي طويل ومكلف، وفي ظرف اقليمي ودولي مناسب لايران بعد الاتفاق النووي الذي فتح لها خزائن الاموال المحبوسة واغلق علينا خزائن الخليج والعالم عموما، وبعد ضرب الثورة السورية في ظل سياسة باراك اوباما الملتبسة في المنطقة وتحول سوريا الى مرتع للميليشيات، خصوصا داعش وحزب الله.
والرئيس عون يدرك بأن عهده، الذي ابعد البلد عن اهله العرب ووضعه رهينة بيد ايران مقايضا بسلطة غنائمية وانقلابية تحت سيطرة حزب الله القابض على جميع المؤسسات بانتخابات فاسدة بقانونها المذهبي وباجراءاتها الادارية المشبوهة، أدى لتفاقم العجز والفساد والهدر والزبائنية. ومع تجاهل مشروع سيدر الانقاذي المتطلب للاصلاحات، وصلنا لشفير الانهيار الذي اطلق انتفاضة ١٧تشرين التاريخية، والتي للاسف لم تستطع ايقاف تعبيد الطرقات نحو جهنم.
حين أجاب الرئيس عون الصحفية بالذهاب لجهنم، كان يدرك ان حكومة المهمة، التي عمل لها الرئيس ماكرون بعد كارثة المرفأ متجاهلا سلاح حزب الله والقبضة الايرانية، لن تر النور لانه كان يملك وبالتكافل مع الحزب المسلح مفتاح الاضاءة، باعتباره صاحب توقيع. ترى هل خطر ببال من صاغ الدستور ان حق التوقيع سيستعمل لضرب الدستور وسيعبّد الطريق لجهنم؟
فالرئيس يريد حكومة مهمتها ايصال الصهر الوريث الى قصر بعبدا الذي تحول الى حاشية وبلاط، او لا ضرورة لحكومة. قالها سابقا”كرمال عيون جبران عمرها ما تكون حكومة”.
والرئيس الجنرال الذي لم تسعفه الصلاحيات في استدراك خطر النيترات رغم خلفيته العسكرية، يستعمل صلاحيات طابشة بفائض قوة حزب الله لاجبار رياض سلامة على التراجع، بينما جماعة الحزب وشبيحة السلطة وتجار الفساد والجشع تتعمد اخفاء وتهريب المواد المدعومة واذلال المواطنين، ومن ثم الصراخ والعويل لتوجيه الضغوط نحو فلس الارملة.
هكذا تستنسخ السلطة وسائل النظام السوري فتعمد الى اشعال الحرائق ثم تحاول اطفائها بعرق الناس المقهورين، مستدرجة التصفيق في مسرح الجثث المتحركة.
الم يقل احد المحامين من اصحاب المحطات المحظية لمراسلة تلفزيونية بان الناس يجب ان تشكره رغم انه يبيع بالتعرفة الجديدة بشكل غير قانوني وأمام أعين أمن الدولة،فهو المحامي والقاضي معا. ثم اين الأصفاد التي تقيد المخزنين البارزين ولماذا بلع وزير الصحة لسانه أمام بعض بلطجية الدواء المقاومين بعد أن توعدهم أمام الكاميرات. أما التهريب المقاوم على ما يصفه الشيخ النابلسي فلم يجرؤ أحد على مواجهته، فكيف بمواجهة قرار بخطورة استقدام بواخر نفط ايرانية، سيكون له رغم طابعه الدعائي تداعيات متعددة الابعاد على بنية الكيان والدولة العميقة التي يتابع حزب الله سبر اغوارها ودك أسوارها للتمكن منها وإدخالها في جنة الإقتصاد الممانع التي تشهد طوابير الإذلال والقهر على مرعسلها وفساد خمرها.
لقد تعهد الحاكم في اجتماع بعبدا الغير قانوني بدفع ٢٢٥ مليون دولار، تسمى مواربة دينا لدولة ضائعة ولسلطة مفلسة ومتوحشة رغم تشظيها، وهي في الواقع تشكل نهشا في الجسد المتعب كيفما دفعت، على طريق البطاقة التمويلية الانتخابية حين يأتي اوانها، ورافق التعهد مذكرة بحث وتحر بحق الحاكم تستحضر مشهدية هذيان قضائي وسياسي سابق. ومع ذلك فان الرئيس عون قال انه سيعمل على دعم الزراعة والاقتصاد المنتج ويخلص البلد من الاقتصاد الريعي، مع انه لم يتوقف عن محاولة تخليص البنك المركزي من فلس الأرملة. فكيف سيعاد هيكلة المصارف اذا نشفت الأموال ؟ وكيف سينهض اقتصاد منتج دون قطاع مصرفي فعال؟بل كيف ستعمل قطاعات المعرفة والسياحة والخدمات دون طاقة وبانترنت رجراجة؟
من شاهد مقابلة رياض سلامة المطولة، يرى الرجل واثقا مما يقول حول رفع الدعم عن المحروقات وعدم المس بالتوظيفات الالزامية، خصوصا انه يتسلح بقرار المجلس المركزي(وما أدراك لمن يتبع أعضاء المركزي) راميا القفاز بوجه المجلس النيابي المتمنع عن انجاز كابيتال كونترول ولاحتى كونترول لتهويلات ومطارحات باسيل وبعض شبيحة ومقاومي المجلس.
وإذ يعجز الحاكم عن مواجهة السلطة الفاجرة، فتراه يستقوي على المودعين العاديين الذين يحلق لهم اصحاب المصارف على الناشف، خصوصا بواسطة التعميم ١٥١، بينما يبلل سلامة لهم ذقونهم قليلا بالتعميم ١٥٨.
والحقيقة فإن الحاكم لم يكن مقنعا في فذلكته لقسمة الودائع بالعملة الاجنبية انطلاقا من ٣١-١٠-١٩، حين اعتبر انه لا يستطيع التمييز قبل هذا التاريخ بين الدولار المحول من الخارج والدولار المحول من الليرة، بينما كل الدولارات بعد ٣١ هي دولارات محولة من الليرة. والسؤال هو: ما هي الجريمة المرتكبة في التحويل المجاز من سلطة النقد في بلد يتغنى باقتصاده الحر؟ ثم اين يكمن خط البدل في السباق التراجعي النقدي؟
فبداية التراجع الدراماتيكي في سعر الصرف حصلت مع قرار الحكومة في عدم دفع اليوروبوند في٩-٣-٢٠٢٠وليس مع انطلاق الإنتفاضة. وهذه جريمة اقتصادية وسيادية لا نخال د.حسان دياب بقادر على ارتكابها، بل نظن انها جريمة بالواسطة ارتكبها عن عمد ثنائي حزب الله/ التيار العوني بتواطؤ او تلكؤ او جبن الآخرين ضمن مناخ شعبوي ساهم فيه بعض شخصيات الإنتفاضة. علما ان الحاكم ابتدع لاحقا فكرة الفريش دولار وفكرة اللولار ثم المنصات وكرت السبحة. فلماذا يعاقب المودعون مرتين عن شيء لم يقترفوه وبمفعول رجعي؟ ولماذا يعاقب من حرك ودائعه الاجنبية داخل المصارف بعد 31-10 2019 فيستثنى من تطبيق ١٥٨، خصوصا بعد تنشيف الدولار ووضع سقف للسحب بالليرة في المصارف؟ ثم لماذا يعاقب من وثق بكلام الحاكم عن ثبات الليرة ولم يحول ابدا للدولار او حول جزئيا بعد ٣١-١٠-١٩؟
لقد وصل اللعب في البلد إلى المربع الاخطر، حيث بات المشهد الابوكاليبتي ينذر بمضاعفات خطيرة، بموازاة تطورات مهمة في الصراع الاقليمي والدولي، وإن كانت لا ترقى لمستوى التغييرات الجذرية في السياسة الاميركية رغم سوريالية المشهد الافغاني.
ومع التأكيد على اهمية مواجهة سيطرة حزب الله وراعيه الإيراني سلميا، الا ان هذه المواجهة يجب ان تطال أيضا محاور الخطر الأساسية، ومنها المحور المالي والنقدي، باعتباره عصب الحياة اليومية.
جميع القوى والهيئات المعارضة والمعترضة مدعوة لدخول حلبة التأثير المباشر، متسلحة بخطة اعتراضية مرنة لابطاء سرعة الانهيار، لان وقفه وبدء النهوض يتطلب عودة العجلة الاقتصادية واستعادة الثقة وتشكيل حكومة مستقلة ووقف انتهاك الدستور، وصولا لتحرير السيادة من الإحتلال الإيراني المقنع، لذا نرى ىضرورة إنشاء هيئة تنسيق تحتضن الهيئات المدنية والنقابية والإقتصادية الراغبة،فضلا عن أصحاب المصلحة وإختصاصيين مستقلين وتعمل على قضايا مباشرة أهمها.
أولا:تحرير سعر المحروقات بالكامل مع بحث دعم السائقين وبعض المؤسسات المختارة بموضوعية وشفافية، وترشيد حقيقي وشفاف لدعم الرغيف وبعض الأدوية المختارة بدقة، علما ان الاستيراد سيعني استنزاف العملة الخضراء وانخفاض قيمة الليرة اذا لم يدخل دولارات بالمقابل، مما يطرح ضرورة ترشيد الاستيراد والاستهلاك.
ثانيا: الدخول على خط البطاقة التمويلية وبحثها مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وبعض المانحين الدوليين مباشرة، فضلا عن المؤسسات اللبنانية المعنية.
ثالثا: الضغط على الحاكم والمصارف لتحرير جزء مهم من التوظيفات الالزامية بما يتجاوز التعميم ١٥٨و١٥١ وتدفع مباشرة للمودعين بالعملة الاجنبية، على ان يرتبط التحويل للخارج بشروط مدروسة، اي إنشاء ميني كابيتال كونترول يتضمن أيضا العمل على تخفيف طبع العملة لابطاء التضخم، خصوصا أننا نسمع عن معالجات تضخمية جزئية على أبواب الإنتخابات ما يذكر بمسلسل السلسلة.
وربما وجب التذكير بأن شيطنة المصارف مسألة سهلة واستعملت لاختراق وحرف الإنتفاضة عن السلطة الفعلية نحو المصارف تحت شعار حكم المصرف، لذا نجدد الدعوة لجمعية المصارف بتغيير التعاطي السلبي والبالغ السوء شكلا ومضمونا مع المودعين العاديين، حيث أن التأفف والعرقلة والهيركات والإستحواذ والعمولة الإستسابية وإختراع المضايقات والتعجيزات والحواجز على أنواعها اصبح نمط التعاطي الرئيسي في معظم المصارف، بموازاة التسهيلات والتحويلات والخضوع للمافيات السياسية وشبيحتهم. فحذار من تصاعد الغضب عند المودعين الذي بدأ ينفذ صبرهم، إذ قد تتحول طوابير الذل المفتعل إلى حشود منتفضة لن ترحم أحدا.
رابعا: الطلب من الجيش والقوى الامنية ضبط التهريب ومتابعة ضبط التخزين والتجاوزات دون إبطاء ودون تمييز ودون توقف، وتحويل المخالفات فورا للقضاء الذي عليه ان يتحمل مسؤولياته دون تلكؤ ودون محاباة، لأن الشمس طالعة والناس قاشعة.
خامسا: التمسك بالدستور واتفاق الطائف، والدفاع عن الحريات ومواجهة شتى أنواع القمع والسلبطة.
لا تتعارض هذه المواجهة الجزئية الجامعة ولكن الفائقة الأهمية مع المقاومة المدنية السيادية أو مع اي مواجهة أخرى، بل ربما تساعد على تخفيف الاحباط وشحذ الهمم واجتذاب مزيد من المتألمين نحو ميدان الفعل المباشر من أجل وقف تدهور حياتهم اليومية، كما من أجل وقف تفريغ البلد من مقوماته وتحويله لقمة سائغة على مائدة اللئام اذا استمر بالانزلاق نحو العدم.
talalkhawaja8@gmail.com
طرابلس في 2-9-2021طلتل