الجمعة ١٦ ايلول، كنت متوجها للقاء زملاء لي في مركز الابحاث العلمية التابع للجامعة اللبنانية والكائن في شارع المئتين في طرابلس. وهذا المركز هو احد المؤسسات التي تشعرنا بالامل رغم ما يعانيه من شح في الموارد والمحروقات، وصل لخطر تبديد اهم ثروة علمية ميكرو بيولوجية في لبنان، قبل ان ينجح القيمون على المركز في تأمين تجهيزه بالطاقة الشمسية. علما ان مختبراته لعبت دورا رئيسيا في الابحاث والتحاليل المخبرية ذات الصلة بوباء الكورونا وباوبئة أخرى أقل شهرة.
اوقفني جاري ابو كريم العامل في بوتيك في وصلة شوارع عزمي/مار مارون/ المطران، فتبادلنا السلام اليومي المعتاد، الا انه حذرني من الذهاب الى فرع بلوم بنك المجاور، حيث يحتشد امامه عدد كبير من المودعين والموطنين. وهولاء المتعبون تجمعوا للحصول على بضعة دولارات حسب تعاميم وارانب الحاكم رياض سلامة، عسى ان تخفف عنهم شظف العيش في الجهنم اللبناني الذي اوصلتهم اليه، سلطة مافيوزية فاسدة وفاجرة، يحميها او يخيفها و يستتبعها حزب مدجج بالسلاح والمال والايدبولوجيا المستوردين بثمن التبعية المطلقة للدولة الموردة.
ويبدو ان هذا الفرع النشيط والمرن نسبيا، قد خضع لترتيبات حماية معينة، بعد ان اقتحمت سالي ورفاقها قبل يومين فرع البلوم في السوديكو، في عملية مرتبة، اعطاها واقع شقيقتها المأساوي تعاطفا استثنائيا مضاعفا، محولا اياها الى بطلة، بالنظر الى الصورة الفائقة السلبية للمصارف. فهذه المصارف تتعامل مع الازمة المصرفية بعقلية الدكنجي، واداراتها تخضع للمودعين المحميين والمافيوزيين، بينما تتفنن بغرز الدبابيس في اجساد المودعين العاديين عوض محاورتهم والتعاون معهم لابتداع الحلول الممكنة، باعتبارهم الضلع الاساسي للقطاع المصرفي، ثم الضغط سويا على السلطة المسيطرة والتي تريد شطب الودائع عمليا، وربما شطب معظم المصارف وتهجير المودعين واللبنانيين المحبطين.
كان الوقت مبكرا، ولم يكن يوم الاقتحامات الطويل لبعض فروع المصارف قد بدأ. وهو ما
تتواصل انعكاساته الكارثية على اللبنانيين، مودعين وغير مودعين. ذلك ان ادارات المصارف قامت كعادتها بتحميل المودعين نتائج هذه الاقتحامات فلجأت للاضراب اولا ومن ثم لإجراءات ادارية وامنية خاصة، مع انشغال اركان الدولة والسلطة بالتحاصص والتناتش و”بالقضايا الكبرى”. هذه الإجراءات صعبت وعقدت معاملات المودعين، الفائقة الصعوبة والتعقيد أصلا، وستزيد من عذاب والام الشعب المقهور، خصوصا في فروع المناطق المهمشة والمستضعفة، كطرابلس و عكار (خزان الجيش والقوى الامنية) على سبيل المثال، حيث تستسهل ادارات المصارف تخفيف اعباء التشغيل، عبر اغلاق فروع وصرف مستخدمين، حتى ان احد المصارف الكبرى اغلق في طرابلس ثلاث من اربع فروع. ولنا ان نتخيل حجم الصغط الذي يتحمله باقي الموظفين الواقعين بين مطرقة اصحاب المصارف الجشعين وسندان المودعين المقهورين، في جو من الكونترول الاداري المركزي الحديدي. ومع انه لا يمكن القبول بتعريض الموظفين والمتعاملين للأخطار مهما كانت المبررات، الا ان الغضب سيتصاعد ويتوسع، وربما ينفجر بأشكال شتى مع انسداد الحلول. وبمناسبة تخفيف اعباء التشغيل. فإن ادارات المصارف لم تكنف بحجز الودائع التي صفرت فوائدها منذ بدء الأزمة، بل لجأت لاقتطاعات مالية “تشغيلية وخدماتية” متصاعدة من الحسابات دون ابلاغ المودع و دون حسيب او رقيب. مع العلم ان ادارات المصارف هي المستفيد الاساسي الى جانب التجار والمافيوزيين وشبيحة السلطة من موضوع صيرفة الممول من اموال للمودعين يجري تبديدها، كما بددت مليارات الدولارات على الدعم الغبي والزبائني والرشوي. ومن المعلوم ان هذا الدعم ذهب بمعظمه لتغذية اقتصاد النظام المجرم في سوريا والى الكارتيلات والمافيات. كما ان المصارف (والسلطات والمصرف المركزي) لم توفر وسيلة في تجفيف اموال المودعين عبر الشيكات والتسويات وتعدد اسعار الصرف والتعاميم الصادرة استنسابيا والمطبقة عشوائيا، في غياب خطط تعاف جدي وكابيتال كونترول وهيكلة مصارف وما الى ذلك.
لقد تحولت فروع المصارف، خصوصا مع اجراءات صيرفة الى مراكز للاعتقال الجماعي المؤقت، ونشأ عنها رهاب جديد هو رهاب البنوك، ومؤخرا دخل عامل تعذيب اخر في المسلسل هو call center، اذ كيف نتوقع الادارات ان تنظم مواعيد لالوف طالبيها، علما ان المواعيد الدسمة ترتب عبر “الخطوط العسكرية”.
بالعودة لتحذير ابو كريم، فقد لفت نظري ان اسم البوتيك هو جوليا، فتذكرت مقالا لنايلة تويني تشبه فيه واقعنا بالمسلسلات التركية التي ندمن متابعتها، رغم الملل والتكرار واختراع الاحداث والتفاصيل السخيفة. فجوليا هي بطلة مسلسل تركي برايتنغ مرتفع، انتهى عرضه مؤخرا بعد اكثر من خمسمئة حلقة، ولكن مسلسل الام اللبنانيين لم ينته عرضه بعد، ولا يبدو في الافق خاتمة سعيدة له كخاتمة مسلسل جوليا، بل تتناسل منه مسلسلات تزيد من منسوب القهر والغضب والعجز، وقد وصلت التداعيات الاجتماعية والنفسية الى درجة القفز يأسا الى قوارب الموت.
لا اريد ان اكرر ما قلناه في مقالات سابقة حول تفاصيل الدعم والتعاميم وما الى ذلك، كما لن ادخل في نقاش تفصيلي لخطط التعافي والكابيتال كونترول والموازنة والازمات المالية والنقدية والاقتصادية عموما، فقد تصدى لهذه المواضيع اختصاصيون واكاديميون ونقابيون واعلاميون متخصصون، جلهم ناشطين في مجالات العمل المدني.
كما لن نكرر بأن اصل الازمات جميعها سياسي وسيادي وفائض قوة فئوية ومرتهنة، والباقي متفرعات وتفاصيل قاسية اقتصاديا ومؤلمة حياتيا ومدمرة حضاريا، خصوصا ان لبنان مصاب باشكاليات الموقع والجمال الطبيعي والطوائف، بعد ان شكل هذا الثلاثي منبع تميزه وغنى تنوعه ومنطلق ازدهاره على مدى عقود.
ومع ذلك ساعيد الإضاءة على التعميم ١٥٨ الذي سمح للمرة الاولى بسحوبات نقدية محدودة بالدولار، اذ انه رسم مسارا، ولو انتقاليا، شبه متكامل لطبيعة وحركية الودائع، كما يراها الحاكم ومعظم اطراف السلطة السياسية. وبما ان الدولار هو العصب الاساس، فقد قسمت ودائع الدولار الى ثلاث فئات
١- دولار ودائع ما قبل ٣١/١٠/٢٠١٩ تاريخ عودة البنوك بعد مرحلة الاقفال السوداء في اعقاب الانتفاضة التشرينية
٢- دولار محول من الليرة بعد ٣١/١٠/٢٠١٩
٣- الدولار النقدي او المحول من الخارج الى حساب خاص ( ابتدع له الحاكم اسم فريش دولار)بعد توقف الحكومة المشبوه عن دفع اليوروبوند والذي تبعه لاحقا توقف البنوك عن الدفع بالدولار وعن التحويل من الليرة للدولار.
طبق التعميم على الفئة الاولى واستثني من هذه الفئة استنسابيا كل من حول وديعته الى بنوك اخرى او الى حساب اخر ضمن نفس البنك بعد ٣١/١٠/٢٠١٩ دون ذكر مسوغ الاستثناء.
اما الفئة الثانية والمستثنون من الفئة الاولى فعليهم الاكتفاء بسقوف السحوبات على تعميم ١٥١ المعدل عمليا بالتعميم ١٦١ المتعلق بدولار صيرفة.
لماذا نستعيد هذا الكلام المعروف للقاصي والداني
اولا: لان التعميم ١٥٨ جرى تجديده لسنة ثانية، كما كان متوقعا، ودون تعديل ينصف المستثنين ظلما وعدوانا.
ثانيا: لان عملية تنحيف الديون واطفاء الخسائر عن طريق تجفيف الودائع، خصوصا الصغيرة منها، بالتعاميم والشيكات والاساليب الملتوية، قد قطعت شوطا كبيرا، علما انه مع صدور التعميم ١٥١، جرى تحييد اصحاب الميكرو ودائع بالليرة واغلاق حساباتهم والتخلص منهم برشوة صغيرة.
ثالثا: تبدو خطط التعافي، رغم عدم جديتها وعدم ثباتها، وكانها تستنسخ التعميمين ١٥٨ و١٥١، لجهة الاستقواء المتكرر والمضاعف على الفئة الثانية، وطبعا على ما تبقي من المودعين بالليرة. حتى ان الهيئات الاقتصادية قدمت مشروعا لصندوق النقد الدولي يتضمن تسديد ودائع الفئة الاولى على دولار ٨٠٠٠ وطبعا ضمن جدول زمني كبير,، يعني اقل مما يحصل عليه هذا المودع على تعميم ١٥١/١٦١.
وربما وجب ان نقدم بعض الملاحظات
١- الفئة الاولى تتكون بمعظمها من صغار الكسبة و من موظفين ومتقاعدين واصحاب مهن حرة، وعموما من مواطنين او مقيمين عاديين، وثقوا بعملة البلد وبكلام الحاكم والمسؤولين، لان اموالهم هي بمعظمها مدخرات وليست مشاريع استثمارات، والمعلوم انه لا مكان للمدخرات قبل الازمة سوى المصارف، ولتتوقف الابواق عن اعتبار المودعين شركاء في ازمة القطاع المصرفي، فهم ضحيتها الرئيسية.
٢- ان شراء الدولار قد تم في المصارف بالتعاقد الحر وموافقة المصرف المركزي وتحت سقف الدستور والقانون، و بمعدل سعر دولار حوالي ٢٠٠٠ وليس ٦٠٠٠ كما يدعي بعض فرسان السلطة والهيئات الاقتصادية الذين يحاولون تحميل جميلة لهذه الفئة الضعيفة والتي كان لها حوالي ٢٥ مليار دولار، بقي منهم ١٦ مليار بعد التجفيف. علما ان هؤلاء الفرسان وكثر مثلهم، ما زالوا يدفعون قروضهم الدولارية للبنوك على السعر الرسمي، كما ان المصارف حصلت على مليارات الدولارات بالسعر الرسمي وبوسائل ملتوية، فضلا عن تحويلها السندات من الليرة للدولار المتأتية من الهندسات المالية على ١٥٠٠ طبعا. علما ان قرار رفع السعر الرسمي الى ١٥٠٠٠ دون رؤيا وخطة وشفافية، سيصيب الاكثر ضعفا. فكفى اسفافا، وكفى استخفافا بعقولنا.
نحن، المواطنون العاديون، نرغب ايضا بانقاذ القطاع المصرفي، ونعرف انه شكل درة التاج في الاقتصاد اللبناني سابقا. ولكن ليس بمزيد من استضعاف المودعين واللبنانيين المقهورين عموما. علما انني ممن لا يرون جدوى من المقاربة القانونية البحتة التي يلجأ لها اصدقاؤنا النقابيون والاكاديميون عن حسن نية، ومنها اللجوء لتطبيق ٦٧/٢ التي ستؤذي المودعين والقطاع المصرفي اكثر من اصحاب المصارف الذي ضمنوا في أسوأ الحالات تقاعدا دسما وحياة رغيدة لعائلاتهم في الخارج. فالازمة هي ابعد من ازمة المصارف كما اسلفنا، رغم ان انانية وغطرسة وتواطؤ معظم اداراتها، وتداخل بعضهم مع السلطة ومافياتها يستفزنا جميعا، لدرجة ان مودعين مسالمين لجؤوا للقوة من اجل تحصيل بعض حقوقهم.
ودائما يطرح السؤال؛ الى اين؟ وما العمل؟
لطالما تمنينا على المعارضين، من كل الضفاف
ومنذ البداية بتشكيل هيئة تنسيق واسعة كفوءة ومتمكنة حول الوضع المعيشي، تتصدى لتداعيات الانهيار السوريالي على اللبنانيين في شتى مفاصل حياتهم، فتعمل على توسيع المساحات المشتركة وتوحيد المقاربات، وتركيز النشاطات والمواجهات باهداف محددة كالتعاميم والقرارات والمشاريع التي تطال حياتهم ومدخراتهم ولقمة عيشهم، بما يعيد الامل للمقهورين والموجوعين والمحبطين،عبر ابتداع وسائل ناجعة وجاذبة لاشراكهم في الدفاع عن حقوقهم المسلوبة.
تبدو المعارضات وكانها ادمنت خوض امهات المعارك السياسية والدستورية والسيادية فقط. حتى ان قوى التغيير نفسها، التي صعدت على رافعة المطالب الحياتية لانتفاضة تشرين، تبدو وكانها تستهلك في المواجهات الكبيرة، وتفتش عن ادوار وهمية بمواقف رمادية ملتبسة في هذه المواجهات. وللتذكير فإن حزب الله ومستتبعيه بطشوا بالمنتفضين، رغم تحييد معظمهم لسلاحه، وحين استدرك المنتفضون ردا على جريمة المرفأ المروعة، متهمين حزب الله بالتسبب بالكارثة، اتانا ماكرون على حصان أعرج ممتصا الردود بخططه الاستيعابية.
وفي الواقع فان المواجهات والمعارك الكبيرة والصغيرة، لن تستقيم دون التقاط نبض الناس واعادة الروح للعمل الجماهيري الديمقراطي العابر للطوائف والمناطق والفئات، مما يتطلب الالتفات لأوجاعهم المباشرة وقلقهم على المصير، فضرس العقل لا يغني عن الانياب.فهل من مبادر؟
talalkhawaja8@gmail.com