لا شك في ان التطورات السياسية المتسارعة في العالم وفي المنطقة تشكل الشغل الشاغل للناس في بلدنا الذي يرضع شعبه سياسة منذ الولادة.
ومع ان جميع الدول والشعوب تتأثر بشكل او بآخر بما يحصل من احداث في اي زاوية من زوايا الكوكب، فمن الطبيعي ان تتأثر بالتحولات والاحداث الكبرى التي تطبع هذه المرحلة وفي مقدمها الحرب المستمرة في اوكرانيا والمتمددة تداعياتها السياسية والاقتصادية والامنية في كل اتجاه. فالعالم قد تحول الى قرية كونية كبيرة يتنافس عليها الكبار و يخشى هذه المنافسة ويتحسب لها الصغار. خصوصا مع ثبوت اقدام الثورة الرقمية وتطور الذكاء الاصطناعي الذي يضع مستقبل الكرة الارضية والفضاء القريب امام معلوم/مجهول.
على جبهة التأريخ بتنا نرى الكثير من المؤرخين الجدد والجديين وهم يغرفون من داتا الثورة الجديدة في محاولة رسم بعض ملامح المولود القادم والتبصر بما سيحصل من اضرار جانبية“collateral damage” قد تكون مأسوية على انماط الحياة البشرية في هذا القرن. و تمثل كتابات يوفال نوح هراري وتوبي اورد اضاءات في هذا الاتجاه. وبالتوازي يتزايد منسوب الخطر البيئي على الارض. علما بأن الثورة البيئية العلمية التي اطلقها هذا الخطر ادت لمزيد من التبصر في مستقبل الكوكب وسلامة سكانه بتنوعاتهم الانسانية والحيوانية والنباتية، حتى أن مؤرخا بارزا كبيتر فرانكوبان مؤلف كتابي طريق الحرير، صدر مؤلفه الاخير بعنوان
,the earth transformed
“the untold story “.
ومع ان كل حي في القرية الكونية مهم، الا ان منطقتنا التي تحتضن الهلال الخصيب وتمتد عبر الجزيرة العربية نحو اليمن (الذي كان سعيدا في الزمن الغابر قبل ان تنفجر سدوده وتخترق ممالكه وتبدا هجراته التاريخية شمالا، حتى ان الكثير من عائلاتنا اللبنانية تعود لاصول يمنية)اكتسبت تاريخيا وما تزال تكتسب اهمية استثنائية. فمنطقتنا معرفة علميا على انها مهد الحضارات ومنطلق الاديان والثقافات والاساطير، ما جعلها تشكل جاذبا دائما للحالمين والشعراء، كما للطامعين والحاقدين والغزاة على مر العصور والحقبات. حتى ان بلد الارز الصغير قد شكلت جباله و وديانه ملاذا للمتمردين والمنشقين والقديسين والهاربين من البطش والتسلط والاستئثار. كما شكلت شواطئه منطلقا لنشر الحرف و البضائع وبناء المدن على اطراف المتوسط. ومع ان بلد الارز تحول بسبب ميزاته الطبيعية وخصائص اهله المتنوعة الى جسر بين الحضارات والثقافات والشعوب، الا انه اصبح ايضا بيتا بمنازل كثيرة كما وصفه المؤرخ اللبناني كمال الصليبي.
ومع انني لا ارغب بمزيد من الانغماس بتحليل تاريخي ثقافي وجيوسياسي حول ظروف انشاء الكيان اللبناني والكيانات العربية الاخرى في المنطقة في اعقاب تفكك وهزيمة الامبراطورية العثمانية وانتصار الحلفاء في الحرب العالمية الاولى وتمدد السيطرة الكولونيالية في منطقتنا، الا انه لا بد من الاشارة الى ان للكيان اللبناني حساسية كبيرة ازاء المتغيرات الاقليمية. فلبنان يقع بين شقيق طامع وعدو غاصب، وفي منطقة تعيش على صفيح ساخن وعلى مفرق التحولات الجيوسياسية الكبرى. لذا فقد تحول البيت بمنازله الكثيرة الى ساحات لتبادل الرسائل المختلفة بين الطامعين، وغالبا بواسطة مجموعاته المتنازعة.
لا بد في هذا السياق من الاشارة الى المفارقة التالية : البلد الذي استطاع ان يشكل في النصف الاول من مئوية التأسيس نموذجا حضاريا اكسبه لقب سويسرا الشرق (ربما لانه امتاز بقطاع مصرفي مميز وعملة نقدية قوية)، و اطلق البعض على عاصمته النابضة بالحياة لقب باريس الشرق، يكاد يتحول بعد مسلسل الحروب والاحتلالات والنزاعات الاهلية الى بيت بمنازل خاوية. و ربما ترتقي هذه المفارقة الى اشكالية تاريخية في التأسيس من ضمن حزمة الاشكاليات في المنطقة. وفي الواقع فان اتفاق الطائف الذي تحول إلى دستور كان يهدف لوقف هذا المسلسل الدموي الذي كلف مئات الاف الضحايا من قتلى وجرحى ومهجرين ومهاجرين، فضلا عن الخراب والدمار الذي اصاب البلد الجميل.
ورغم الجهد الكبير المبذول في الطائف وما تلاه من اعمال جبارة في اعادة اعمار البلد، الا ان الجيوبولتيك لعبت سلبا، فقد اجتاح الديكتاتور العراقي صدام حسين دولة الكويت سنة ١٩٩٠. وهذا الاجتياح سمح للولايات المتحدة بتجنيد حملة عالمية لاخراج القوات العراقية من الكويت تلاها حصار اجرامي قاتل للشعب العراقي. وقد شارك النطام السوري رمزيا بالحملة فمنح مقابلها جائزة الوصاية المتحولة هيمنة ونهب للبنان، وتطبيق استنسابي ومشوه للطائف. وأخيرا الى زلزال اغتيال الرئيس الحريري بعد فرض التمديد لاميل لحود رغم المعارضة السيادية الواسعة المتمثلة بقرنة شهوان ولقاء البريستول.
ورغم ان استشهاد الحريري فجر انتفاضة لبنانية هائلة ادت لمعجزة اخراج القوات السورية ضمن مناخ دولي مؤات انتج القرار ١٥٥٩، الا ان الجيوبوليتيك لعبت سلبا من جديد. فقد ادى الغزو الاميركي للعراق وتفكيك جيشه ومؤسساته و تفجير نسيجه الاجتماعي في سنة ٢٠٠٣ بعد اجتياح افغانستان في اعقاب “غزوة بن لادن لاميركا” في ١١ ايلول ٢٠٠١، الى انتعاش ملالي ايران وايقاظ احلامهم الامبراطورية والتوسعية. هكذا سارع النظام الايراني لاستغلال اللحظة السياسية بتحفيز وتفجير الخلافات والنزاعات المذهبية والفئوية في المنطقة العربية، مستحضرا عامل الاقليات ونابشا الاحقاد التاريخية، وملوحا براية القدس وسيلة للمراوغة ودغدغة المشاعر المشوشة من الهزائم. وسرعان ان انتقلت الهيمنة السورية على لبنان الى هيمنة ايرانية بواسطة حزب الله المدجج بالمال والسلاح والايديولوجيا الايرانية، خصوصا بعد حرب ٢٠٠٦ الاسرائيلية على لبنان التي استجرتها عملية حزب الله المخالفة لوعود نصرالله على طاولة الحوار.
ادى هذا الواقع السياسي لوضع البلد على سكة انهيارية دون كوابح، خصوصا بعد ان تحركت الفوالق السورية اثر انتفاضة الربيع السوري وما رافقها من قمع دموي، تحولت معه الى حرب اهلية، شارك فيها حزب الله مع راعيته ايران الى جانب النظام الفئوي السوري.
لست من مؤيدي نظرية المؤامرة والهروب من المسؤولية التي تقع على عاتق نخب وشعوب المنطقة في قضايا التحرر والحداثة والتنمية. ومع ذلك فإن كشف دور الغرب الكولونيالي في تظهير و تعزيز النزاعات القبلية والطائفية و زرع الاشكاليات وفي اعاقة النهضة والتحرر والدمقرطة في المنطقة العربية، بات يشكل جانبا مهما من نتاج المؤرخين الغربيين المستقلين والمتطلعين، عبر قراءة جديدة للتاريخ، الى مستقبل للبشرية اكثر عدلا وامانا وتحررا. خصوصا مع تزايد الاخطار التي اشرنا لها في بداية هذا المقال، بما فيها الاخطار النووية التي يلوح بها القيصر الروسي وصقور الكرملين. نذكر من هؤلاء المؤرخين فرانكوبان وباتريك سيل واليزابيت طومسون و المستعرب البريطاني تيم ماكنتوش-سميث الذي كتب رائعته “العرب: ثلاثة الاف سنة من الامبرطوريات والشعوب والقبائل”.
وللمفارقة ايضا فإن لبنان بلد “الاشعاع والنور” يبدو، بمنازعاته الاهلية، وان بصورة مجازية، من بين البلدان العربية الاكثر تجسيدا لثنائية شعب/قبائل التي شكلت احد مفاتيح مؤلف ماكنتوش. علما ان هذه الثنائية خفتت كثيرا في موطنها الاصلي نتيجة مشاريع التنمية والتحديث التي جعلت من دول ومدن الخليج مقصدا للبنانيين وغيرهم. الم يشكل حفل الافتتاح في مونديال قطر وعالمية مدينة دبي و مشاريع الرياض في رؤية ٢٠٣٠ بعض علامات هذا الخفوت، في الوقت الذي تتحزر فيه القبائل اللبنانية بمظالمها التي لا تنتهي، من تداعيات الاتفاق السعودي الايراني المرعي صينيا، على البلد المأزوم لحدود الفشل والانهيار. ويخشى ان يؤشر اطلاق الصواريخ مؤخرا من قبل منظمات فلسطينية اسلاموية برعاية ايرانية واحتضان حزب اللاهي، و بتطنيش مفجع من معظم اطراف السلطة وبعض المعارضة، الى محاولة اقامة غزة ثانية في الجنوب، و ربما بتناغم مصلحي من نتنياهو الذي يستفيد من هذه المشاغبة لحرف الأنظار عن مشاكله الدخلية وانتهاكاته الفظيعة في فلسطين. والمؤسف انه في الوقت الذي يتفرج فيه العالم الحر على الانتهاكات الاجرامية الاسرائيلية ضد الفلسطينيين الصامدين، نرى هذا العالم يعلو صراخه عند كل قذيفة روسية تسقط على اوكرانيا، ما يزيد من هشاشة مصداقية هذا العالم البارد.
لن نكرر تعداد الازمات المتفجرة والاستحقاقات الدستورية والاخطار الوجودية التي تهدد الوطن الصغير، فقد مل الجميع من تعدادها، خصوصا اننا نمر بذكرى ١٣ نيسان الاليمة. كما لن ننجر لنغمة تحميل الشعب اللبناني مسؤولية السكوت واعادة انتاج السلطة وكأننا في بلد طبيعي وسيد،
فلطالما قاوم هذا الشعب وواجه الظلم والتمييز والفساد والقمع والاحتلال، كما فعل في انتفاضتي ١٤ آذار و١٧ تشرين التاريخيتين وما بينهما. والاحرى ان نتفهم عوامل الاحباط وحجم القلق الذي يكبل هذا الشعب في بحثه المضني عن لقمة العيش.
ومع اننا لن نرفع شعار كلن يعني كلن، رغم كثرة التشابه بينهم، وقد حددنا بوضوح الجهة التي ترهن البلد لمصالح خارجية وفئوية جهارا، الا اننا لن نغض الطرف عن التقصير والكسل لدرجة التكيف، وعن المواقف الرمادية والشعبوية والطائفية، فضلا عن الشخصانية و الممارسات القبائلية، عند شتى انواع المعارضات السياسية والمدنية والنقابية. كما اننا لن نوفر في نقدنا بعض شرائح التغييريين واليساريين الذين ما زالوا يعيشون في زمن مضى. هذه ليست اتهامات ولا مبالغات ولا تنظيرات، بل هي اشارات الى رمادية الموقف السياسي من فائض القوة والهيمنة والاحتلال المقنع، و الى المبالغة في تقدير دور البرلمان في التغيير الديمقراطي في بلد غير سيد، و الى ادارة الظهر عمليا لاوجاع الشعب اليومية والتفرج على تذويب امواله ومدخراته و على انهيار معظم قطاعات البلد ومرتكزاته بانتظار الفرج.
فلا مواجهة ناجحة حتى في اطار الاستحقاقات الدستورية، الا من خلال العمل على اعادة استنهاض اللبنانيين من كل الاطياف والمناطق. وهذا لن يتم فقط في المستوى السياسي والسيادي، بل ايضا بابتداع وسائل وخطط التصدي لانهيار المستوى المعيشي الذي يدفع الناس لليأس والهجرة وربما للفوضى.
الصورة ليست قاتمة الى حد السواد. والتحولات في المنطقة بما فيها الاتفاق السعودي الايراني قد تتيح فرصة مناسبة اذا ما توحد الموقف المعارض وانتقل الى المبادرة العملية، خصوصا ان الجميع في مأزق. واللبنانيون بمختلف اطيافهم بما فيهم البيئة الحاضنة للحزب المسلح يتطلعون لوقف الانحدار المريع بمساعدة اشقائهم العرب، ويرفضون بدعة وحدة الساحات التي تغلف مزيدا من الاستباحة لمصلحة الراعي الاقليمي. وهم يدركون ايضا ان خلاصهم في وحدتهم على غنى تنوعهم، وفي توحدهم حول دستورهم وفي حصرية السلاح بيد الدولة ورفع الاحتلال والهيمنة، وفي اعادة ترميم الدولة سياديا وسياسيا واقتصاديا وفي الشروع في اصلاحات جدية والخلاص من المحاصصة والزبائنية والفساد السياسي، وفي ترميم واستقلال القضاء و تطبيق القانون على الجميع وكشف جميع الجرائم وفي مقدمها جريمة المرفأ المروعة.
وبما انه لم يعد هناك من ترف اضاعة الوقت. فسانهي المقال بالمثل التالي من كتاب الامثال:
من يتكاسل في حراثة ارضه في الوقت المناسب لن يحصل على طعام عند الحصاد.
وفي حالتنا قد نصبح طعاما للآخرين.
فهل نتجه نحو الحراثة، ام ننتظر حراثة الآخرين؟
talalkhawaja8@gmail.com
اظن ان هنالك من متغير …جبهة النصرة و النظام السوري بأكمله سيعملون لأخراج ايران و ادواتها من جنوبي الشام في القادم من الايام
مقال صحيح ومعبر عن الواقع الماساوي الذي نعيشه