تعبر النزعتان الاستقلاليتان في أربيل وبرشلونة عن تآكل في أنموذج الدولة القومية المركزية في مرحلة العولمة غير الإنسانية، واستساغة الشعوب لنماذج حكم محلي أكثر التصاقا بقضاياها وطموحاتها.
يبدو الحوار مستحيلا بين مدريد وبرشلونة بعد الاستفتاء على استقلال كاتالونيا، بالتزامن مع بلورة حلف ثلاثي عراقي إيراني تركي في مواجهة نتائج الاستفتاء على استقلال كردستان في شمال العراق. هكذا من قلب الشرق الأوسط إلى أوروبا يبرز تحدي الهويات والنزعات القومية داخل دول متعثرة أو غير قادرة على إعلاء شأن المواطنة أو تنظيم التعددية.
في هذه الحقبة المتسمة بتصدع العولمة والتحولات الجيوسياسية في أكثر من مكان، لم يعد نموذج الدولة الوطنية الكلاسيكي صالحا لكل زمان ومكان، كذلك لا يمكن تطبيق حق تقرير المصير عمليا أو تلقائيا لكل من يطالب به، خاصة إذا كانت مقومات تأسيس الدولة غير متوفرة. وتفرض هذه الإشكاليات تفكيرا جديدا ونمطا مرنا للعيش المشترك بين المكونات في أنظمة فيدرالية أو كونفيدرالية، أو القبول بنشأة دول جديدة والتعايش معها.
بالرغم من الفارق المنهجي والعملي في حالتي الشعبين الكردي والكاتالوني، وبين مساري الدولة في كل من إسبانيا والعراق، يمكن استخلاص علامات مشتركة لجهة يقظة الاتجاه القومي ومصاعب الدولة المركزية وكذلك في طرق المعالجة الملتوية أو الاستفزازية من هذا الجانب أو ذاك، ناهيك عن انعكاسات توزيع الثروة وتقاسم الموارد.
بيد أن الوضع الإقليمي الملتهب حول كردستان ضمن بركان الشرق الأوسط، لا يقارن بالجوار المستقر لإقليم كاتالونيا داخل اتحاد أوروبي ينقصه التنبه لظواهر انفصالية بنظره، مع خشيته من امتداد العدوى إلى دول أخرى في إيطاليا وبلجيكا وفرنسا وغيرها.
لذلك لا بد من التمحيص في جذور كل مشكلة على حدة، ومحاولة إعطاء أجوبة متناسبة لا تهمل النزعة الطبيعية في حق تقرير المصير للكثير من الشعوب (الفلسطينيون والتتار والهنود الحمر والأبورجنيز وغيرهم الكثير) ولكنها لا تستعجل انفراط عقد الدول وعدم الحفاظ على وحدة أراضيها.
تاريخيا، تعتبر الدولة ظاهرة القرن العشرين بامتياز وقد تصاعد عدد الدول من 43 دولة عضوا في عصبة الأمم في 1920 إلى 195 دولة عضوا في منظمة الأمم المتحدة في 2012، علما أن مرحلة ما بعد نهاية الحرب الباردة شهدت تضخما في عدد الدول من 159 دولة في 1990 إلى 189 دولة في العام 2000.
بالنسبة لإسبانيا لا يمكن للمرحلة الحديثة التي بدأت مع التحول الديمقراطي بعد وفاة الجنرال فرانكو في 1975، أن تحجب حقب الاستعمار والحروب الأهلية ومشاكل الأقليات القومية من باسك وكاتالان وغيرهما.
من جهته، لم يشذ العالم العربي عن القاعدة العامة في بروز ظاهرة الدول إذ أن غالبية دوله نشأت في القرن الماضي كنتاج لتفكيك الإمبراطورية العثمانية ونزع الاستعمار الأوروبي لاحقا.
وفي السياق التاريخي يمكننا القول إن “الصحوة العربية” المنطلقة من تونس هي ثالث محاولة نهضوية للتخلص من الانحطاط والاستبداد وبناء نموذج إسلامي أو تغييري أو تحديثي جديد تبعا لأطروحات هذا التيار الفكري أو ذاك.
كانت المحاولة النهضوية العربية الأولى في أواخر القرن التاسع عشر وكانت ردة فعل على الاستبداد العثماني، وكانت المحاولة الثانية مع التيار القومي العربي الذي بلور مشروعا نهضويا كرد على النكبة في فلسطين، لكن هزيمة يونيو 1967 وانعدام الحريات الأساسية قوضا هذا المسعى.
وما المحاولة في بدايات حراك 2011 إلا نتاج نهج غير أيديولوجي ردا على مأزق عدم وجود ديناميكيات قادرة على التغيير والخلاص من الدولة العربية الأمنية الطابع، والتي كانت النمـوذج الأكثر رواجا للدول الوطنية في عهدة السلطويين والمؤسسات العسكرية والأمنية.
مع كل منعطف في زمن الهزات العربية كثر الكلام عن إعادة رسم الخرائط وعن تجاذبات أو ترتيبات دولية جديدة. لكن عدم تبلور صورة المشهد الإقليمي النهائي في سياق المخاض المستمر فصولا، وعدم اتضاح مصير وحدة الكيانات في مستقبل منظور، نلحظ استمرار تحطيم الدول المركزية استنادا إلى مخاطر امتداد نزاعات المشرق واليمن وصلتها بمصالح إيران وإسرائيل وتركيا وروسيا والولايات المتحدة وسواها من أطراف لعبة الأمم.
أما في ليبيا واليمن فتتلاقى حروب الآخرين مع الصراعات الأيديولوجية والقبلية والجهوية لكي تترك آثارها السلبية على وحدة المجتمعات.
هكذا بدل تباشير تحول عربي إيجابي كانت تلوح في أفق 2011، يبرز اليوم واقع سياسي معقد ربما يجعل مفهوم الدولة القومية متضاربا مع العالم العربي الجديد الناشئ. لذا لا بد من مشروع ديمقراطي عربي ينهل من التراث العريق ويتأقلم مع متطلبات الشمولية في عالم تسوده التجمعات الكبرى، خصوصا أن الحلول للأزمات ضمن إطار الكيانات لم تكن ناجعة.
إن الشرعية الدينية ليست كافية لوحدها ولا يجوز أن تطغى أيديولوجيتها على عناصر الدولة القومية الناجحة: الديمقراطية، الاعتراف بالآخر، الاستقلال الاقتصادي، النمو المدعوم ذاتيا والأمن السياسي داخل الحدود الوطنية.
أما بالنسبة لانقطاع خيط الوصل بين مدريد وبرشلونة، فإن تقاعس الاتحاد الأوروبي عن لعب دور توفيقي يمكن أن يعمق المأزق ويذكر بالتقاعس الدولي عند بدايات أزمات البلقان.
أما الصور النمطية والتبسيطية فلن تقدم الحلول ومنها وصف نزعة الاستقلال عند كاتالونيا بأنها انتفاضة الأغنياء الذين يرفضون تمويل الأقاليم الفقيرة في المملكة الإسبانية.
إن إصرار رئيس إقليم كاتالونيا كارلوس بوجيمون على أن الإقليم أصبح من حقه الآن الحصول على “دولة مستقلة” بعد استفتاء غير شرعي حسب مدريد وشابته أعمال عنف وقمع من الحرس المـدني الإسباني، يقابله تصميم رئيس وزراء إسبانيا ماريو راخوي على منع إعلان الاستقلال مما سيترك تداعيات على الأمن والتماسك داخل كاتالونيا أو بين مدريد وهذا الإقليم. ويمكن لراخوي أن يدفع الثمن لأن الأكثرية التي تدعمه نسبية وهشة وديمومتها مرتبطة بكيفية معالجة المعضلة الكاتالونية.
يطرح كل ذلك تساؤلا رئيسيا حول السيناريو الأكثر ترجيحا بالنسبة لمستقبل نموذج الدولة القومية عبر نهايته أو تأقلمه وتحوله لدولة مختلطة تعددية لا مركزية، تسمح بتلبية مطالب المجموعات الإثنية والمكونات الأقلية، مما يتيح تحديد السمات الرئيسية للنظام العربي بشكل فيدرالي خاصة في المشرق.
يصر رئيس إقليم كاتالونيا على أن معركته هي ضـد الاستعمار الإسباني، ويطالب مسعود البارزاني رئيس إقليم كردستان بإنهاء حدود سايكس بيكو. لكن الحالتين لا تمثلان نزعا تقليديا للاستعمار ولا مجـرد نقض لفكرة قومية أخرى وهيمنتها.
وفي الغالب تعبر النزعتان الاستقلاليتان في أربيل وبرشلونة عن تآكل في أنموذج الدولة القومية المركزية في مرحلة العولمة غير الإنسانية، واستساغة الشعوب لنماذج حكم محلي أكثر التصاقا بقضاياها وطموحاتها.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس
العرب