(الصورة: “داعش” تصفّي جنوداً عراقيين)
إذا بقي الناس على إيمانهم باللامعقول، سيستمرون في ارتكاب الفظاعات
فولتير
من أين أتى هذا الانحدار إلى البربرية التي تمارسها “داعش”/الدولة الإسلامية؟ وكيف وصلنا إلى تفشي هذا العدد الكبير من المنظمات الإسلامية المتطرفة تقريباً في كل البلاد العربية، مقابل تراجع وتشتت واضحين للقوى التي تدعو إلى تعزيز النظام المدني الديموقراطي بدل النظام الديني؟
كما في كل التطورات التاريخية المشابهة، يجب العودة إلى المجال الفكري، والفكر هو المحرّك الأول للعمل السياسي والديني. أعود إلى عصر النهضة العربية الذي ابتدأ في أواخر القرن التاسع عشر تقريباً، ولم يعش طويلاً إذ تلاشى حوالى منتصف القرن الماضي مع الصعود شبه المتزامن للديكتاتوريات العربية والحركات الإسلامية، وبالأخص حركة الإخوان المسلمين.
المشكلة الأساسية تكمن في استراتيجية حركة النهضة العربية. فالنهضة العربية، ونذكر من أهم دعاتها محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي، أرادت الحداثة في مجتمعاتها، هذه الحداثة التي رأت تجلياتها الأوروبية من ازدهار علمي ومادي غير مسبوق، إلا أنها أرادت الحداثة مع الإسلام وهنا المشكلة. أرادت مجتمعاً دينياً وحديثاً في الوقت نفسه، وهذا مستحيل. الحداثة وُلدت من قطيعة واضحة فكرية وسياسية مع الدين، وهذه القطيعة تجلّت في الثورة الفرنسية. وكان من المستحيل أن يولد العصر الحديث، وعمره الفعلي حوالى القرنين، بدون هذه القطيعة مع الدين التي لم تحدث حتى الآن في العالم العربي والإسلامي.
لذلك، فالمسألة ليست في كون الإسلام معتدلاً أو أصولياً أو سلفياً أو تكفيرياً، كما هي ليست في تكيّف الإسلام أو الدين عامة مع الحداثة. هذا منظار خاطئ. المسألة هي في فصل الإسلام، أو أي دين، عن الشأن العام تماماً كما جرى في أوروبا مع فصل الدين المسيحي/الكنيسة عن الدولة بكل أبعادها. والحداثة، وهي ابنة فصل الدين عن الدولة، أنتجت خلال قرنين تقريباً ثورة علمية ومادية فريدة في تاريخ البشرية مع حركة تطور اقتصادي وطبي وعمراني واجتماعي لم تعرفه البشرية منذ آلاف السنين. وما مدى مساهمة الدين في هذا التطور البشري الفريد؟ صفر.
الحداثة تُخضع المجال العام أو السياسي لقوانين مكتوبة، لا إلهية، يحدّدها المواطنون من خلال مؤسساتهم المنتَخبة. والديموقراطية هي التجسيد الفعلي والتاريخي لمسار الحداثة. عملياً، الديموقرطية تعني الانتخابات الحرّة الدورية، وفصل السلطات، وبالأخص احترام حقوق الإنسان الفرد، وهذه حقوق معترف بها دولياً في شرعة الأمم المتحدة. لذلك إنه لأمر أساسي لا أن يُفصل ما بين الشريعة الإسلامية والشأن العام فحسب بل أن يتماشى الإسلام أيضاً مع هذه الحقوق الإنسانية. الحداثة والديموقراطية أتت وتأتي من تحت، من إرادة الإنسان الحرة في المجتمع التي تنتج قوانين تتغيّر حسب حاجة المجتمع وتصحيحاً لأخطاء، وليس من فوق من تشريعات أزلية يفسّرها دعاة حسب الأهواء.
فشلت النهضة العربية في مسارها القصير، والفشل كان مصيرها المحتّم من جراء اعتماد استراتيجية جمعت عنصرين متناقضين في الأساس هما الدين والديموقراطية. ثم ظهرت في النصف الثاني من القرن الماضي ديكتاتوريات في بعض أكبر الدول العربية (نذكر بالأخص مصر وسوريا والعراق) فشلت على كل الصعد الكبرى التي أتت على أساسها: لا نمو اقتصادي، لا فرص عمل، لا حرّيات، ولا فلسطين. انظروا فقط إلى مؤشر واحد يختصر كل مؤشرات الأداء الأخرى، وهو نسبة الأمّية، أي عدم القدرة على القراءة أو الكتابة، لدى الراشدين (15 عاماً وما فوق). أتعرفون أن هذه النسبة كانت 26% في الشرق الأوسط وشمالي افريقيا حتى عام 2010، وذلك استناداً إلى إحصاءات البنك الدولي؟ أي أنه بعد أكثر من نصف قرن من الثورات والإصلاحات في العالم العربي لا يزال أكثر من ربع الراشدين لا يستطيعون القراءة أو الكتابة. وإذا أضفنا إلى المعيار بضع سنوات من الدراسة الإبتدائية يكون حوالى نصف الراشدين في العالم العربي شبه أمّيين! أين العجب إذن من تفشي الأصولية الدينية مع فشل أساسي كهذا على مستوى التعليم يصاحبه أداء اقتصادي لا يقلّ سوءاً؟
مما لاشك فيه أن فشل النهضة العربية ومن ثم فشل أنظمة القومية العربية، وبالأخص الديكتاتوريات منها، شكّل عنصراً مساعداً قوياً لصعود الحركات الإسلامية. إلا أن هذه الحركات الإسلامية جاءت بتحوّل نوعي في الأهداف السياسية والاجتماعية. فالحداثة لم تعد المبتغى بل أصبحت تمثّل الجاهلية والعدو، والشعار بات “الإسلام هو الحل”، والحل هو إنشاء دولة إسلامية تحكم بالشريعة الإسلامية وإلا فالدولة تكون دولة كفّار. ومن أبرز المفكرين في هذا المجال حسن البنا، مؤسس حركة الإخوان المسلمين، وسيد قطب وأبو الأعلى المودودي الباكستاني والإمام الخميني المتأثر بفكر الإخوان المسلمين. ومن المفارقات أن هؤلاء الأربعة وُلدوا في الفترة نفسها تقريباً، ما بين 1902 و1906، أي في الفترة التي شهدت الصعود القوي في فكر الحداثة في العالم العربي.
إن أي نظام سياسي – اجتماعي قائم على الدين لا بد وأن يكون منحاه الأصولية الدينية وتكفير الآخر، وحتى قتله أحياناً. حدث هذا مع الدين المسيحي ويحدث الآن مع الدين الإسلامي. فكل فكر شمولي أو إلهي، كما هو الفكر الديني، لا بد وأن يمر بمرحلة تاريخية يكون فيها أصولياً وتكفيرياً وحتى لاغياً لكل من يراه خارج النطاق الضيق لمعتقده. ولذلك فإن “داعش” هي نتاج منطقي لأحداث من القرن الماضي أهمها فشل النهضة العربية وعملياً انهيار أنظمة ما يسمى الدول العربية المدنية، والتي كانت فعلاً ديكتاتوريات متسلطة.
العالم العربي والإسلامي يعيش حالياً حالة انفصام. فمؤسساته الحديثة في الشكل تنهار عند أية هزة سياسية أو أمنية. وهذا العالم لا يشارك في الحداثة إلا كمستهلك، وليس كفاعل في إنتاجها. حتى داعش تقول “إن الإعلام هو نصف الجهاد”. أما الفكر السياسي والاجتماعي السائد في العالم العربي والإسلامي فهو منفصل كلياً عن فكر الحداثة إذ لا يزال دينياً في الجوهر، يحتكم في النهاية إلى الشريعة والفتوى وليس إلى القانون، يعيش أوهام الماضي بدل مواجهة مشاكل اليوم وتحديات المستقبل. لقد كان القرن الماضي قرن الفشل للمجتمعات العربية على كل الصعد تقريباً، والتطورات في القرن الحالي تشير إلى المزيد من الفشل.
لا يمكن مواجهة هذا التحدي إلا بقوى ليبرالية أو يسارية، سمّها ما شئت، تهدف صراحة من خلال العمل السياسي المنظّم إلى إنشاء الدولة المدنية الديموقراطية. هذه أهداف جديرة بالصراع من أجلها. ولا يعتقدن أحد أن الدولة المدنية هي ضد الدين، الذي يبقى فاعلاً في المجال الفردي، كما يتبين بوضوح في المجتمعات المدنية في أوروبا والولايات المتحدة حيث المؤسسات الدينية كلها في ازدهار مستمر.
للأسف، هناك أفراد ليبراليون ويساريون إنما لا توجد قوى ليبرالية أو يسارية فاعلة في المجتمعات العربية. فالحركات اليسارية، ومنها الأحزاب الشيوعية، لا تزال تخوض معارك القرن الماضي، مستنفرة للتصدي للشيطان الاميركي، متجاهلة كل الشياطين القريبة والشقيقة حولها وفي عقر دارها، متغافلة ومنذ نصف قرن تقريباً عن قمع مجتمعاتها وازدهار السجون وأقبية التعذيب فيها. والصوت الليبرالي أو الديموقراطي أو اليساري هو صوت خافت، ملتبس، يردّ ولا يبادر، يطرح الشعارات ولا يقود، يساوم بدل أن يناضل.
ليس لقوى مثل “داعش” إمكانية الاستمرار، إلا أن مثيلاتها ستظهر عاجلاً أم آجلاً إذا لم تعتنق المجتمعات العربية مبادئ الحداثة صراحة وتمارسها فعلاً. إن أفق المجتمعات العربية محصور بواحد من خيارين فقط: الحداثة أو البربرية. لذلك فالسؤل الأهم هو ماذا ستكون الحال بعد “داعش”؟ أملنا الأوحد هو في أن يخرج هؤلاء الديموقراطيون والليبراليون واليساريون العديدون في العالم العربي، الخائفون والمشتتون في الظلال، أن يخرج هؤلاء إلى أضواء العمل السياسي لكي يقودوا المعركة ضد الجهل الخطير القابع في مجتمعاتنا.
*كاتب وخبير اقتصادي
نُشِر هذا المقال لأول مرة في “قضايا النهار”، بتاريخ 25 أيلول/سبتمبر 2014
*
إقرأ أيضاً:
كيف دُوّن التاريخ الإسلامي؟ (4): لغز الشعر الجاهلي
اقترح على الكاتب الصديق قراءة كتاب اليزابيت طومسون
How the west stole democracy from the arabs
ترجم نؤخرا الى العربية
التحليل مقطوع الصلة عن التحولات الاقليمية والدولية في القرنين الماضيين وانعكاساتها المولونيالية، الا من زاوية قياسية