تمر شرائح كبيرة من نخب جيلنا بمرحلة من التأمل والمراجعة الفكرية الواسعة، مصحوبة بقلق اجتماعي ووجودي كبير، علما ان معظمنا غادره اولاده الى المنافي الطوعية بعد انهيارات وإحباطات متتالية نتجت عن تفكك قوى الانتفاضة الاذارية الاستقلالية وتعثر الانتفاضة التشرينية وما بينهما من حراكات مدنية شبابية رفعت شعار اسقاط النظام الطائفي واسقاط جبال النفايات والقذارة السياسية.
اطلق بعض الروائيين على جيلنا تسمية جيل الزمن الرومانسي، ذلك ان افكاره واحلامه تكونت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي على وقع حركات التحرر الوطني في العالم، من الثورة الجزائرية الى الثورة الفلسطينية الى الثورة الفيتنامية الى ثورات اميركا اللاتينية وايقونتها الغيفارية الى الثورات الافريقية وايقونتها مانديلا، وعلى وقع انتفاضات التغيير التي انطلقت من عاصمة الانوار والثورات باريس وانحنى لها بعد تردد المارد الفرنسي ديغول، والتي سرعان ما اخترقت البنى الاجتماعية والفكرية في عواصم وحواضر العالم اجمع، تاركة بصمتها الثقافية في كل مكان وفي كل مجال وعلى كل مستوى.
كان من الطبيعي ان نرى في انتفاضات الربيع العربي انعكاسا لبعض احلامنا المتكسرة، سواء على المستوى الوطني، سواء على مستوى عالمنا العربي المترامي، رغم انها اختلفت عن معظم حراكاتنا الشعبية التي كان يغلب عليها الطابع الحزبي والتنظيمي والايديولوجي.
وبينما كانت مظاهراتنا ونشاطاتنا السلمية تندرج في سياق رؤيا واهداف وخطط وبرامج ثقيلة احيانا، بدت انتفاضات الربيع العربي وكأنها دومينو انفجارات عابرة للكيانات العربية لدمامل متقيحة في اجساد امة متعبة.
هكذا اندمجت شعارات الخبز والحرية والكرامة مع شعار الشعب يريد اسقاط النظام. كان اصحاب السوابق اليسارية يكدسون من اجل اسقاط النظام، الافكار والنظريات والمجلدات والمؤتمرات والمنازعات والائتلافات والانشقاقات، واحيانا العمل المسلح. الم يعلن الراحل محسن ابراهيم في ذكرى اربعين رفيقه الشهيد جورج حاوي “ان الحركة الوطنية اللبنانية استسهلت ركوب مركب الحرب الاهلية من اجل تحقيق برنامجها للتغيير الوطني والديمقراطي”. وكان الرمزان الراحلان فد اصدرا في ١٦ ايلول ١٩٨٢ بيان انطلاق جبهة المقاومة الوطنية المسلحة ضد العدو الاسرائيلي بعد احتلال بيروت في اعقاب خروج منظمة التحرير الفلسطينية واغتيال الرئيس بشير الجميل، اذ لا شرعية لاي بندقية الا في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي.
ومع ذلك فان جوهر الروح التغييرية والمتطلعة للعدالة والحرية وللحداثة والتغيير الديمقراطي لم يتغير كثيرا في جميع المراحل الثورية، سواء تظهرت في انتفاضات عفوية ام في عمل ثوري منظم.
لقد كان معبرا ان تتحول اغنية “غيفارا مات آخر خبر في الراديوهات” التي غناها الشيخ امام في الثمانينيات الى نشيد للثوريين الرومانسيين الذين وقفوا في وجه الديكتاتوريات العسكرية والمدنية والتي قمعت الحريات بذريعة التحرير والتنمية، و ادت في نهاية المطاف الى الهزيمة والتخلف معا.
ثم الم يصدح ربيعيو مصر في ميدان التحرير برائعة الشيخ امام “صباح الخير على الورد اللي فتح في جناين مصر”، علما ان الميدان احتضن كافة مكونات الشعب المصري المتدفق من جميع الاحياء، حيث اختلطت نساء امبابة البسيطات بهوانم الغاردن السيتي، تماما كما حصل في انتفاضة الارز التي جمعت منوعات العائلة اللبنانية في انتفاضة استثنائية غير مسبوقة قيل عنها، انها شكلت احدى اهم ارهاصات الربيع العربي، الذي عاد ليظهر بنسخة لبنانية في انتفاضة ١٧ تشرين التاريخية. وكم سرت نخب جيلنا التي شاركت في هذه الانتفاضة حين سمعت الشباب ينشدون في السهرات الثورية.
“شيد قصورك عالمزارع من كدنا وعرق جبينا”
هكذا بدا وكأن القصائد التي لحتها وغناها الشيخ الضرير فد شكلت الخيط الرفيع والشجن الناعم الذي ربط بين المراحل والاجيال والكيانات العربية، حتى يكاد يصبح رمزا لعشاق الحرية الذين قاوموا القمع والظلم والاستبداد، خصوصا حين يدندن:
“بايدي عود قوال وجسور وصبحت انا في العشق مثل”.
ومع ذلك فقد تغير الزمن ومعه ثمة تغيير في اللحن والشجن، ولم يبق من الايديولوجيات سوى الايديولوجيات الدينية التي اجتاحتنا بتداعياتها الكارثية على المنطقة العربية، في اعقاب الحركة الاسلامية الخمينية، والتي نكلت بالمكونات الثورية الايرانية، حتى ان الديكتاتور العراقي الراحل اضاف كلمة الله واكبر على العلم ليكسب شرعية اسلامية، بينما شجع غريمه الدكتاتور السوري المعاهد والمؤسسات الدينية امعانا في اماتة السياسة المتهالكة اصلا منذ الانقلابات وحل البرلمانات والحكومات التي تمتعت بحد ادنى من التمثيل، وذلك في موازاة انتهاج سياسة التوحش الفئوي الامني.
حقا لقد تغير الزمن الثوري وانهارت الايديولوجيات الكبيرة، واحدثت الثورات التكنولوجية والذكاء الاصطناعي ونظام المصالح المتشكل معها تحولات جيوسياسية كبيرة. حين اعتنق الحزب الشيوعي الصيني نظاما اقتصاديا رأسماليا، اهتز العالم وتخلخلت التوازنات، وسرعان ما عاد القيصر الروسي ليطالب بحصته على الكوكب الذي تشغل بلاده جزءا هائلا منه، بعد ان استضعفته الولايات المتحدة عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، مشعلا الحروب الساخنة في اوكرانيا بعد فظائعه في تشيشنيا و تدخله في جورجيا وسوريا، ومحولا الهواجس الاوروبية والدولية الى قلق مرضي، ولم يشفوا بعد من معاناة الوباء القاتل. ويرافق هذه التحولات والازمات الاقتصادية صعود اليمين الشعبوي والعنصري في اوروبا والولايات المتحدة الاميركية التي اهتزت ديمقراطيتها دون ان تقع في ٦ اكتوبر ٢٠٢١، وللمناسبة فان القيصر الروسي يساهم في صعود هذا اليمين في اوروبا واميركا.
ويؤجج هذه التحولات موجات الهجرة التي ازدادت من منطقتنا الفائقة الأهمية جيوسياسيا والتي تشهد الصراعات والاطماع الاقليمية والدولية كما تجتاحها الحروب والانهيارات والخلافات. فضلا عن الخيبات والاحباطات، بعد ان تحول الربيع العربي الى صيف حار وجاف، رغم ان شعلته لم تنطفئ بالكامل. وللمفارقة فان المحظوظين هم الذين يجدون ملاذا اقتصاديا واجتماعيا آمنا في حواضر بلدان الخليج المزدهر والذي تحكمه مجموعة من العائلات، ذلك الخليج الذي حاول بساريو الزمن الرومانسي دخوله من نافدة ثورة ظفار.
لطالما شكل هاجس الحداثة محركا رئيسيا للنخب العربية والاسلامية على امتداد اكثر من قرنين. البعض يرجعها للصدمة الحضارية التي احدثها غزو نابوليون لمصر، والبعض يرجعها لهزيمة مدوية للامبراطورية العثمانية سنة ١٦٩٩، حيث بدأ التدحرج امام الغرب الاوروبي المتقدم والمتسلح بالعلم والمال والاساطيل، بعد ان وضع حدودا في ويستفاليا لسلطة رجال الدين وللصراع الديني عموما، مطلقا العنان للتحديث الاقتصادي والاجتماعي والعسكري، بمواكبة النهضة العلمية والثقافية. اللبنانيون يضيفون تأثر فخر الدين النهضوي في منفاه التوسكاني .
لم يبق باحث ومفكر وناشط الا وتساءل عن اسباب تعثر الربيع العربي الذي جذب الملايين الى ميادين العواصم والحواضر العربية التي تئن تحت وطأة الاستبداد والتخلف والازمات المعيشية، فضلا عن التدخل الخارجي، وصولا لفقدان السيادة والاحتلال المقنع.
في مقابلة مع معهد العالم العربي في باريس، سئلت الاميركية اليزابيت طومسون مؤلفة كناب “كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب” عن المحفزات والعوامل التي حدت بها لتأليف وثيقة تاريخية شكلت ادانة قاطعة للجريمة الغربية في تدمير تجربة المملكة العربية السورية الدستورية في ١٩٢٠، اجابت بان احد اهم العوامل هو تعثر الربيع العربي، خصوصا في نسخته السورية الاكثر ايلاما, ونسخته المصرية الاكثر تعبيرا، شارحة مراحل وحيثيات وظروف الاعداد لمواد الكتاب.
وكما انطلق الربيع السوري من مدينة درعا، بدأت المؤرخة مؤلفها التاريخي من درعا حيث تجمعت قوات الامير فيصل ورفاقه استعدادا لتحرير مدينة دمشق من قوات جمال باشا، ودخلها في تشرين اول ١٩١٨.
ابرزت الكاتبة في مؤلفها النقاط التالية:
١- ان المملكة العربية السورية التي اعلنت مع اعلان الاستقلال في ٨ آذار ١٩٢٠ هي مملكة دستورية اقامتها نخب وطنية متقدمة وذات تجارب سياسية وادارية، مدنية وعسكرية في السلطنة، على مبدئي حرية تقرير المصير والديمقراطية وبهدف بناء دولة عصرية منفتحة على الحداثة والتقدم.
٢- ان المؤتمر العربي السوري الذي اعلن الاستقلال، تشكل من مندوبين منتخبين، ليبراليين واسلاميين وطنيين وتقليديين من طوائف ومناطق مختلفة في سوريا الطبيعية( بلاد الشام ).
وقد لعب الدور الاساسي في تحفيز الحوار الديمقراطي وادارة التسويات والتحالف بين الاتجاهات المختلفة، ابن الفيحاء الطرابلسية وناشر مجلة المنار الشيخ رشيد رضا، تلميذ الشيخ محمد عبده، بعد ان اتى من منفاه في القاهرة مع ثلة من الوطنيين السوريين، معظمهم ليبراليون، وانتخب لاحقا رئيسا للمؤتمر بمواجهة ديمقراطية مع صديقه رضا الصلح.
٣- ان الدستور الذي انتجه المؤتمر كان متطورا حتى بالنسبة لدساتير اوروبية وقد اخذ عن الدستور الاميركي الكثير، وكاد ان يعطي المرأة حق التصويت (ولم يلغه بل اجل البند) لولا خوفه على وحدة المؤتمر والسوريين المهددين بانذار الجنرال غورو، فضلا عن انه ساوى بين المواطنين مسلمين وغير مسلمين امام القانون، ولم ينص عل ان دين الدولة هو الاسلام كما ادعت فرنسا، بل دين الملك المنتخب من المؤتمر فقط، كما انه وضع المواد الضامنة لانشاء برلمان ديمقراطي يتمثل فيه الجميع عبر تقسيمات ادارية مناسبة، علما ان رئيس الحكومة مسؤول امام البرلمان وليس امام الملك. وهذا الدستور هو افضل من اي دستور عربي حالي، لانه عمليا فصل بين مجالي الدين والدولة.
٤- الديمقراطية لم تفشل في سوريا، بل جرى سحق التجربة الديمقراطية السورية وملاحقة الليبراليين والوطنيين من قبل فرنسا بالتواطؤ مع إنكلترا. وهذا اثار الخيبة والاحباط عند الشعوب العربية، وشكل الارضية المناسبة لنشوء الاخوان المسلمين والاسلام السياسي عموما على قاعدة العداء للغرب وان الشريعة هي الحل في الدين والدنيا، ما عاكس ما انجزه التيار الاصلاحي الاسلامي في عقود. فالدبابات الفرنسية التي دخلت دمشق في ايلول ١٩٢٠ سحقت القاعدة الشعبية للديمقراطية الليبرالية التي تطلعت للحداثة الغربية وامنت بمبادئ ولسون التي شكلت مانيفستو للاحزاب الوطنية العربية، مما مهد الطريق لاحقا، خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية ونشوء الكيان الصهيوني لصعود الديكتاتوريات وسيادة الاستبداد السياسي والديني.
وقد عبرت اليزابيت عن ذلك بالقول “ان الدكتاتورية نشأت على كعوب الجنود الكولونياليين الفرنسيين والانكليز”.
وتؤكد المؤرخة التي اصبحت لقاءاتها تراندنغ في مراكز الدراسات، بان المؤتمر العربي السوري نجح في توحيد الليبراليين والاسلاميين التقليديين في ١٩٢٠، بينما فشل ربيعيو ٢٠١١ بتوحيد القوى والفئات المنتفضة، خصوصا الاسلاميين والليبراليين، فوقعت الخلافات وحصل قمع دموي، تحول الى حروب اهلية احيانا، وعادت الديكتاتورية في كثير من الأحيان.
لا ندعو لنظرية المؤامرة، بل نؤكد بان الدول والامبراطوريات تديرها المصالح وتسعى للهيمنة، ولا مكان فيها للعواطف. واذ لا ندعو للعودة الى الوراء، فإنتا ندعو لقراءة التاريخ بعين المستقبل لأخذ العبر، خصوصا ان انقساماتنا ونزاعاتنا العصبية والنرجسية تقارب القبلية احيانا، وتشكل الثغرة التي ينفذ منها الاستبداد والتخلف والتدخلات الخارجية.
وبالمناسبة فان اللبنانيين بشرائحهم ونخبهم المعارضة هم امام امتحان قاس لتوحيد صفوفهم وبناء مشروع لبناني يلتف حولها اللبنانيون لمواجهة مرحلة خطيرة، وصفوها جميعا بالوجودية، بعد ان انهارت حياتهم وتفجرت عاصمتهم وانتهكت كرامتهم، وفقدت سيادة بلدهم.
طرابلس- لبنان