أليست خطّة ترامپ تسير على خطى اتّفاقات أوسلو وما أعقبها من تفاهمات بين الزعامات الفلسطينية الغَبِيّة والزعامات الإسرائيلية الأَبِيّة؟
حينما يُعلن محمود عبّاس، رئيس السلطة الفلسطينية، في اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة أنّه أخبر إسرائيل بوقف كلّ أشكال التنسيق الأمني معها عقب الإعلان عن صفقة القرن فهو يكذب على الملأ. والأنكى من ذلك أنّه يكذب، ليس على وزراء العالم العربي، وإنّما على أصحاب القضية من أبناء شعبه المعنيّين بهذا الأمر.
يكفي أن نُذكّر القارئ العربي هنا وفي كلّ مكان أنّ رئيس السلطة لا يستطيع التحرّك من المُقاطعة في رام الله بأيّ اتّجاه دون تنسيق أمني مع الاحتلال الإسرائيلي. فهل هنالك طفل فلسطيني عاقل يُصدّق هذا الكلام الذي يُطلقه أبو مازن؟ وقد يسأل سائل، إذا توقّف التنسيق الأمني مع الاحتلال، فكيف سيعود رئيس السلطة من جولاته الخارجية إلى المقاطعة بدون تنسيق أمني مع إسرائيل التي تتحكّم بالحدود والطرقات، بالبلاد وبالعباد؟ وبدون تنسيق أمني مع الاحتلال الإسرائىلي، كيف سيرسل موفديه إلى غزّة بشأن البحث في كيفية توحيد السلطة بين غزّة والضفّة؟ أم أنّ الأمر هو بمثابة ”على الكلام ما فيش جمرك“.
وإذا كان صادقًا في كلامه، فإنّ تصريحه هذا يُحتّم عليه الإعلان عن استقالته الفورية، وحلّ سلطة أوسلو والبقاء خارج فلسطين. أليس كذلك؟
*
وحينما يُصرّح أبو مازن أنّه لن يتنازل عن القدس التي ضمّتها صفقة ترامپ إلى إسرائيل مشيرة إلى إمكانية إنشاء عاصمة في أبو ديس وأحياء أخرى من القدس الشرقية، فهو يكذب على الملأ مرّة أخرى. إذ إنّ هذا الرّفض يُعيد إلى الأذهان كلّ تلك التفاهمات التي توصّل إليها أبو مازن ذاته مع الوزير يوسي بيلين في العام 1995.
بهذا السياق قد يكون من المفيد للقارئ العربي بعامّة، والقارئ الفلسطيني على وجه التحديد، أن نعيد التذكير بما ورد في تلك الوثيقة بشأن القدس. فممّا جاء في وثيقة التفاهمات بين يوسي بيلين وأبو مازن بخصوص المدينة المحتلّة نشير إلى ما نصّت عليها الوثيقة: «يتمّ توسيع حدود المدينة الكبرى لتشمل أبو ديس والعيزرية وسلون وتستطيع السلطة الفلسطينية فيما بعد أن تتخذ من الأحياء الجديدة المستحدثة عاصمة ومركزًا إداريًّا لها يُصبح اسمها ”القدس – Al-Quds“ بالعربية واللاتينية وليس ”Jerusalem“، بينما تسمّى بقية أنحاء المدينة القديمة بحدودها البلدية القائمة حاليًّا ”أورشليم – Jerusalem“ منعًا لأيّ التباس.»
على ضوء ما ورد أعلاه، أليست خطّة ترامپ تسير على خطى اتّفاقات أوسلو وما أعقبها من تفاهمات بين الزعامات الفلسطينية الغَبِيّة والزعامات الإسرائيلية الأَبِيّة؟
*
وأمّا بشأن غزّة، فحدّث ولا حرج.
إذ عندما قرّرت إسرائيل الانسحاب من قطاع غزّة وتفكيك المستوطنات فهي لم تفعل ذلك لنوايا طيّبة. من المفيد أيضًا بهذا السياق أن نُعيد التذكير بملابسات ما جرى في ذلك الأوان. لقد جاءت خطّة الانسحاب من غزّة لغرض «تجميد العملية السياسية» بين الإسرائيليين والفلسطينيين «بصورة شرعيّة». هذا ما كشف عنه دوف فايسغلاس، كبير مستشاري رئيس حكومة إسرائيل آنئذ، أريئيل شارون، في مقابلة مع صحيفة “هآرتس“ في أكتوبر 2004. يقول فايسغلاس في المقابلة: ”عندما تُجمّد العملية السياسية فإنّك تمنع قيام دولة فلسطينية، وتمنع الحديث عن اللاجئين، وعن الحدود وعن القدس“ ويضيف: ”في الواقع كلّ هذه الرزمة المسمّاة دولة فلسطينية تسقط من جدول أعمالنا لفترة زمنية غير محدودة“.
وهذا ما حصل فعلًا. فليس صدفة أن الانسحاب الإسرائيلي من غزّة قد حصل دون تنسيق مع السلطة الفلسطينية، وهو ما أدّى في نهاية المطاف إلى سيطرة حماس على القطاع وعزله تمامًا عن الضفّة الغربية سياسيًّا واجتماعيًّا. لقد كان التنسيق الإسرائيلي مع الجانب الأميركي فقط، كما يذكر فايسغلاس: ”لقد كان اتّفاقي مع الأميركيين على النحو التالي: جزء من المستوطنات لا يتمّ المساس به بالمرّة، جزء آخر من المستوطنات لا يتمّ المساس به حتّى يتحوّل الفلسطينيّون إلى فنلنديين. هذا هو مغزى الخطوة التي اتّخذناها“، يلخّص فايسغلاس فلسفة الانسحاب من غزّة.
منذ ذلك الأوان تمّ تجميد العملية السياسية، وشكّلت حماس منذئذ أداة طيّعة في خدمة السياسة الإسرائيلية. كما هو معروف لم يتحوّل بعد الفلسطينيون إلى فنلنديين، كما وهنالك خيط رفيع يربط بين ذلك الانسحاب وبين خطّة الثالوث غير المُقدّس فريدمان-غرينبلاط-كوشنر لالتهام الأراضي الفلسطينية في الضفّة.
وهكذا، إذا استمرّت الحال على هذا المنوال فلن أستغرب وضعًا يتمّ فيه الاعتراف بإمارة حماس في غزّة بوصفها الدولة الفلسطينية، على غرار انفصال باكستان الشرقية وقيام دولة بنغلاديش. وهكذا تضحي غزّة بنغلاديش فلسطين، بعد أن تكون إسرائيل قد التهمت ما تبقّى من الضفّة الغربية.
*
هكذا وصلت فلسطين وأهلها إلى وضع من الارتباك السياسي والاجتماعي والثقافي. لقد آن الأوان لوضع حدّ لكلّ هذه البلبلة الفلسطينية، وإلى اختيار قيادات تفهم العالم من محولها وتتفاهم معه بشأن قضيّتها. إنّ التّلطّي الفلسطيني بالعالم العربي منذ بدء الصراع في هذه البقعة من الأرض قد جلب الويلات على فلسطين وأهلها. وها هو العالم العربي بعد كلّ هذه العقود أضحى مشغولًا بقضاياه، وكلّ بلد فيه يغنّي على ويلاه.
إذا كانت صفقة القرن صفقة دنسة، وهي كذلك بلا أدنى شكّ، فإنّ القيادات الفلسطينية قد دنّست هي الأخرى طوال عقود طويلة قضيّة فلسطين العادلة بفسادها المُزمن وبغبائها السياسي الذي لا قاع له.
وما دامت هذه الزعامات الفلسطينية هي ذاتها فلن يتغيّر شيء. إذ لو كانت هنالك قيادات فلسطينية حقيقية وأمينة وصادقة مع نفسها ومع شعبها لكانت سارعت بالاستقالة من مراكزها ولكانت أجرت حسابًا للنفس على كلّ المآزق التي أدخلت شعبها بها.
لقد آن الأوان لأن يختار الفلسطينيّون قيادة جديرة وجريئة بمصارحة الشعب الفلسطيني بحقائق الوضع، وتطليق الشعارات التّليدة والبليدة التي ترعرعت عليها إلى غير رجعة.
ولكن لا حياة، والأصحّ لا حياء، لمن تنادي.
*