أجرى « الشفاف » مقابلة خاصة مع مخرج فيلم “لبنان – حدود الدم »، دوكي درور، وهو إسرائيلي من مواليد تل أبيب، ولكن عائلته من أصول عراقية قبل أن تنتقل إلى لبنان. وقد أخبرنا «دوكي درور » أن إسم عائلته كان « درويش »، وأنها كانت تسكن في شارع « الحمرا » في بيروت، وأنها كانت تملك منزلاً في « بحمدون ».
للقارئ الذي لا يجيد الإنكليزية، نقلنا النص التالي عن موقع « قنطرة » الألماني (تمويل الفيلم ألماني) ويمكن لقارئ « الشفاف » مشاهدة الفيلم في الساعة 8,15 دقيقة من ليلة ١٧ ت٢/ نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 على شاشة arte.
*
بلد الأرز رهينة الفوضى…”قصة لبنان لها أكثر من رواية”
عنوان الفيلم بنسخته الإنكليزية والعربية هو “لبنان – حدود الدم” وهي تسمية منتزعة من عبارة الرئيس اللبناني الأسبق أمين الجميل التي وردت في الفيلم، وقد أخذها بدوره من وصف الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران للمشهد اللبناني آنذاك، حسب ما أدلى به مخرج الفيلم دوكي درور لموقع قنطرة.
في ألمانيا انتجت شبكتا WDR وarte هذا الفيلم الوثائقي التلفزيوني، ومن المقرر أن يعرض في الساعة 8,15 دقيقة من ليلة السابع عشر من نوفمبر / تشرين الثاني 2020 على شاشة arte، وبعدها ستعرضه القنوات الأخرى.
ورغم أن ألمانيا لم تكن طرفاً في تلك الحرب فقد اكتوت بأسبابها ومقدماتها عبر تعاون وتسليح وتدريب جرى بين بعض الفصائل الفلسطينية وتنظيم “بادر ماينهوف” اليساري الإرهابي الألماني. كما شهدت أراضي ألمانيا واحدة من أسوأ المواجهات الفلسطينية الإسرائيلية عبر قيام منظمة أيلول الأسود الفلسطينية بتفجير طائرة العال التي حملت الوفد الرياضي الإسرائيلي للمشاركة في أولمبياد ميونيخ عام 1972 في مطار مدينة ميونيخ.
تفجير مرفأ بيروت
في العادة تتوالى الأحداث بوتيرة متصاعدة لتصل القمة، لكن قمة المشهد اللبناني في الفيلم تبدأ في تفجير المرفأ عام 2020، ثم يعود الفيلم عبر مشاهد وثائقية عديدة إلى تاريخ لبنان منذ تشكيل الدولة الحديثة بعد الحرب العالمية الأولى، التي ضمت مكونات يصل عددها إلى ثمانية عشر مكوّناً (حسب الفيلم) لم تتفق غالباً مصالحها مع وحدة البلد.
ويمر الفيلم بالتفصيل على مشاهد الحرب الأهلية التي بدأت عام 1975 وانتهت في 1990 محاولاً أن يعرض بموضوعية تفاصيلها، التي لم يفهم اللبنانيون أنفسهم أسبابها. فالقتال الذي بدأ في منطقة عين الرمانة المسيحية، اندلعت شرارته بين فصائل مسلحة مسيحية مارونية وفصائل فلسطينية كانت قد دخلت لبنان نازحة من الأردن بعد معارك أيلول الأسود.
في سبعينات القرن العشرين لم تملك الفصائل المسلحة الفلسطينية سوى لبنان ساحة تنطلق منها لمواجهة القوات الإسرائيلية، وهذا كان بدوره من أسباب الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982، والذي أثّر بقوة في توازنات القوى المشاركة في الحرب.
لكن المواجهة بين الكتائب والاحرار المسيحية من جهة وبين الفصائل الفلسطينية من جهة أخرى ليست سوى جانب واحد من الحرب في لبنان، فالمسيحيون أنفسهم وجهوا فوهات بنادقهم إلى بعض، وسالت دماؤهم لتختلط بدماء من قتلوا إبان سنوات الحرب الأهلية في مشهد سريالي يصعب تفسيره.
“لا تقل أنت، بل دع الآخرين يقولون”
أعتمد الفيلم أسلوب السرد الألماني الإعلامي والدرامي المعروف والقائم على مبدأ: “لا تقل أنت بل دع الآخرين يقولون”، وهكذا، فإنّ المشاهد الأرشيفية للحرب والتاريخ، كان تربطها تعليقات من شخصيات عاشت أو شاركت بقرارات سياسية، ووثقت صحفياً تلك السنوات الدامية.
أول المتحدثين هو الرئيس اللبناني أمين الجميل بين عامي 1982 و1988 حيث قال إن “لبنان هو موزائيك من الإثنيات والأحزاب، وهذا التنوع هو سبب ضعفه وسبب قوته في نفس الوقت”. وأكملت حديثه الصحفية اللبنانية حنين غدّار كاشفة أن “قصة لبنان الدامية لها أكثر من رواية، فكل يرويها وفق مصالحه”. وسبق أن أصدرت محكمة لبنانيا بحق حنين غدار حكماً غيابياً بالسجن لمدة ستة أشهر بسبب إعلانها خلال ندوة نظمها معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى أنّ “الجيش اللبناني يميّز بين إرهاب سني وإرهاب شيعي، ويتسامح مع الأخير”.
شاهد على العصر وعلى تاريخ لبنان: أمين الجميّل، الرئيس الأسبق للبنان.
وعلى خلفية مشاهد ساحرة لطبيعة لبنان، تنتقل الكاميرا إلى موظف CIA “روبرت بير” الذي شغل منصباً في الوكالة من عام 1976 حتى عام 1997، ويعرض هو الآخر أن “اللبنانيين أنفسهم لا يفقهون تفاصيل ما جرى ويجري في بلدهم، فما حالنا نحن؟”.
فيما يذهب المعلّق الألماني الذي يربط مشاهد الفيلم على خلفية مشاهد المسلحين في سبعينيات القرن الماضي إلى القول “أن تفهم لبنان يعني أن تفهم الشرق الأوسط”.
ثم يظهر الصحفي الأمريكي المشهور توم فريدمان على الشاشة ليقول: “في الشرق الأوسط يروم الجميع السلطة، هذا سبب كل الصراعات، وفي لبنان كانت المشكلة دائماً تكمن في أنّ إحدى القوى تظن أن بوسعها وحدها الاستئثار بالسلطة، وهكذا ظن المسيحيون، ثم اعتقد السنة ذلك، ثم تدخل السوريون لفرض إرادتهم، ثم قاتل الشيعة لأجل السلطة، ثم تدخل الإسرائيليون، والفلسطينيون. كل حزب يحلم بالسلطة المطلقة في هذا البلد، لكن في الشرق الأوسط ليس بوسع أحد أن يحصل على كل شيء”.
وسط هذا الاسترسال، يظهر عنوان الفيلم وسط الشاشة، ثم يظهر اسم المخرج الإسرائيلي دوكي درور، لتنفتح الكاميرا على مشاهد سنوات الحرب، ثم مشاهد بيروت وهي تتقوس حول ساحل البحر الأبيض المتوسط في مشهد يسحر الانظار وبالفرنسية تكشف الممثلة اللبنانية دارينا الجندي “وضع البلد اليوم حزين، فالشعب جائع كما كان حاله في سنوات الحرب الأهلية”.
“كان لبنان سويسرا الشرق بحق في عام 1962”
وتستضيف الكاميرا المخرج السينمائي الألماني فولكر شلوندورف Volker Schlöndorff الذي صوّر فلم “دائرة الخداع” في لبنان عام 1981في أوج الحرب الأهلية.
ويمضي المخرج الألماني الحائز على جائزة أوسكار عن فيلمه الشهير “طبل الصفيح” ليعرض كيف كانت الحياة في بلد الأرز ومستوى الحرية التي كانت تميزه عن كل بلدان المنطقة آنذاك، ما جعله قبلة يزورها رجال الأعمال والساسة والدبلوماسيين العرب والغربيين، بل كل أنواع رجال المال من مختلف انحاء العالم: “كان لبنان سويسرا الشرق بحق في عام 1962، كان هناك النوادي الليلية، والمطاعم الفخمة، والفنادق الأنيقة الباذخة التي لم يكن بوسعنا الإقامة فيها”.
ينعم سكان بيروت بحياة مرفهة ناعمة، فيما يرزح الجنوب الشيعي، الذي يعيش في ربوعه الفلسطينيون أيضاً، تحت خط الفقر ويعيشون حياة كئيبة مسدودة الآفاق، وهذا بحد ذاته سبب مباشر للانقسام بين طبقات الشعب، لكن اختلاف واحتراب مكونات النسيج اللبناني يرجع إلى تاريخ أقدم من هذا.
وتفاقم الانقسام، بعد التدخل السوري عام 1976، فقد تحالف مع الرئيس السوري السابق حافظ الأسد الرئيس اللبناني آنذاك سليمان فرنجية، ما ولّد فيما بعد انقساماً مسيحياً وصل لحد التذابح والتهجير، حيث أن أسرة الجميل وقفت على الضد من هذا التحالف.
ويؤكد معلّق الفيلم الألماني أن كلا الأسرتين المسيحيتين تتعاملان بتهريب البضائع وتهريب المخدرات أيضاً وتتقاتلان من أجل المال والسلطة، رغم أن كليمها تعتبران الفلسطينيين عدواً لدوداً.
وعبر الفيلم تتحدث بعض الشخصيات المسيحية عن عداء العالم للفصائل المسيحية اللبنانية، شرقا وغرباً، باستثناء إسرائيل التي وقفت معهم في الحرب ضد الفلسطينيين انطلاقا من مبدأ “عدو عدوي صديقي” على حد تعبير أحد عملاء الموساد الذين يظهرون في الفيلم. وهكذا تدخلت إسرائيل عسكرياً في الجنوب اللبناني، وشكلت ميلشيات تابعة لها، لكنها سحبت قواتها في عام 1978 ما أدى الى تصعيد الموقف من جديد.
ولعب الدبلوماسي فيليب حبيب وهو أمريكي من أصول لبنانية مارونية دوراً في وقف حروب لبنان حيث تمكن من إبرام اتفاقين لوقف إطلاق النار بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية.
ويعلق الدبلوماسي الأمريكي رايان كروكر الذي كان جزءاً من أحداث ذاك الزمان في لبنان مراراً على الدور الأمريكي والفرنسي في المشهد اللبناني المشتعل خلال الفيلم. وفي وصفه للمشهد النهائي يقول كروكر: “إنّ السوريين هم من أخرجوا الفلسطينيين من لبنان، ونجحوا في جعل اللوم يتوجه إلى الإسرائيليين والفصائل المسيحية اللبنانية بهذا الخصوص”.
ويبلغ الفيلم ذروة حادة بتفجير السفارة الأمريكية وتفجير مقر المارينز في بيروت حيث اتجهت أصابع الاتهام إلى حركة حزب الله الموالية لإيران وهو ما كرس التدخل الإسرائيلي، كما يتدخل السوريون بشكل واضح فيغتالون الرئيس اللبناني الماروني المنتخب بشير الجميل.
وتعلق السياسية الإسرائيلية تسيبي ليفني على المشهد وتركز على أن الدور الإسرائيلي في لبنان وخاصة عبر التدخل الواسع الثاني عام 1982 واحتلال بيروت كان دفاعياً، لأن الهجمات الفلسطينية على بلادها كان مصدرها دائماً الأراضي اللبنانية. وهو تدخل استمر حتى عام 2000 وانتهى بالانسحاب بعد تولي ايهود باراك رئاسة الحكومة. هذا الانسحاب أجبر عدداً كبيراً من مقاتلي الفصائل المسيحية اللبنانية الموالية لإسرائيل على اللجوء إلى إسرائيل والعيش فيها مع أسرهم النازحة.
المهتم بفهم المشهد اللبناني والشرق أوسطي عموماً سوف يحتاج إلى تكرار مشاهدة الفيلم لتثبت في ذاكرته مئات التفاصيل الدقيقة التي تابعت فسيفساء لبنان.
*مخرج الفيلم دوكي درور. سينمائي إسرائيلي ولد في تل أبيب، ولكنه من أصول عراقية-لبنانية. ويعد واحداً من أفضل مخرجي الأفلام الوثائقية في بلده. حاز شهرة عالمية، ومن أشهر أفلامه “جار اليسوع عام 2001، شريك الأعداء 2014، على الشبكة المظلمة العميقة عام 2016، من داخل الموساد عام 2017 (من انتاج نتفليكس ويعرض على قنواتها)”.