سؤال: ماذا يحدث في تونس؟
د. محمد عبد المطّلب الهوني: الذي يحدث في تونس الآن هو صراع على السلطة ما بين تحالف الإخوان المسلمين وحزب الفساد من جهة، والمجتمع المدني وبقية الشعب!
في العشر سنوات الأخيرة، أي منذ أحداث الربيع العربي وانتهاء نظام بن علي وحتى الآن حكمَ « حزب النهضة » الإسلامي كل هذه الفترة، فماذا حدث؟
الذي حدث انهم اهتموا كما يفعل « الإخوان » دائماً بما يُسمّى « التَمكين » ومحاولة « إقصاء الآخر ». ولم يهتمّوا، كعادتهم، بالمشاكل الحياتية للإنسان التونسي. فالأحزاب الإسلامية بارعة وقادرة على التآمر، ولكن، إذا أخذت السلطة، فهي لا تستطيع أن تفعل أي شيء من أي أجل الناس.
لذلك، ماذا حدث في هذه العشر سنوات الأخيرة؟
حدثَ أن العملة التونسية فقدت أكثر من ١٠٠ بالمئة من قيمتها. حدث أن المنظومة الصحية انهارت. حدث أن الإدارة أصبحت ليست إدارة الدولة التونسية الرشيدة، لأن « الإخوان » عندما استولوا على هذه السلطة من خلال الانتخابات وضعوا مجموعاتهم ومريديهم في مفاصل الدولة. ثم ماذا فعلوا؟ جنّدوا بعض القضاة ووكلاء النيابة من أجل إخفاء جرائم قاموا بها مثل جريمة اغتيال المناضل الكبير شكري بلعيد، والبراهمي، وارتكبوا افعالاً سيئة وأفعالاً إجرامية. ثم تعاونوا مع جماعة « أنصار الشريعة » في السنوات الأولى في محاولة لخلق فتنة وحرب أهلية في تونس.
كل هذه الجرائم، بما فيها الجرائم التي قام بها الإرهاب، كانوا هم متواطئين فيها مع هؤلاء. أي بمعنى أنه استغلوا الدولة التونسية ومؤسسات الدولة إما لمحاولة « التَّمكين »، و« التمكين » عندهم يعني قيام « الجمهورية التونسية الإسلامية » أو عبر محاولاتهم التي قاموا بها، وهذه موثّقة، لدرء العقاب عن المجرمين الذين ينتمون إليهم.
هذا الذي حصل. ومع جائحة « كورونا »، ومع البطالة، ومع كل المآسي التي حصلت في المجتمع التونسي، فإن الإنسان التونسي العادي أعزى كل هذه المصائب لـ« النهضة » لأن « النهضة » هي التي حكمت في السنوات العشر الأخيرة.
ومن ثم، قام الرئيس التونسي بمحاولة لإنقاذ الدولة من الانهيار. هنالك محاولة، أستطيع أن أقول أنها « صعبة » لتفسير الدستور بطريقة معينة! حتى يجد مخرجاً لتقليم أظافر هؤلاء ولإنقاذ الدولة التونسية.
هذا الذي حدث الآن!
سؤال: هنا، أنت تقول أن ما حدث ليس « إنقلاباً » وليس « إجراءً عادياً « ، وإنما هنالك تأويل للدستور يسمح بالتغيير؟
الهوني: الدستور كنص بشري، ككل النصوص البشرية (وحتى لو كانت نصوصاً إلهية ثم تنزّلت على البشر) قابل للتأويل. ولذلك نجد من يؤوله ويقول هذا « إنقلاب »، وآخر يؤوّله ويقول أنه « فعل صحيح وشرعي »!
وربما نستطيع أن ننظر إلى الموضوع بشكل آخر: اليوم قال الغنوشي، اليوم، لأجد جنود الجيش المرابط أمام مقر البرلمان « أنت وأنا أقسمنا على الدستور، فكيف لا تتركني أدخل إلى البرلمان »؟ فرد علي الجندي قائلاً « أنت أقسمت على الولاء للدستور، أما أنا فأقسمت على الولاء للوطن »!
سؤال: الرئيس الحالي، ألم يصل إلى السلطة بدعم من حركة « النهضة »؟
الهوني: أنا لا أعتقد ذلك. ولكن الأحزاب الإسلاموية قد تختار شخصاً، وقد تؤيد شخصاً، طمعاً في أن تسيّره كما تشاء. فإذا خرج عن طوعهم، أصبح عدواً.
سؤال: بالنسبة لك، هنالك فرق بين ما حدث في مصر قبل سنوات، وما حدث في تونس قبل يومين. بعض الأوساط تقول « إنقلاب سعيد مثل إنقلاب السيسي في مصر »!
الهوني: لا، هذا غير صحيح! أولاً، المقارنات خاطئة لأن المجتمعات مختلفة. في المجتمع المصري لا يوجد غير تنظيمين: تنظيم « الإخوان » وتنظيم « الجيش »! وليس لأي أحد غيرهما القدرة على الوصول إلى السلطة. في تونس الموضوع مختلف: لأن الجيش الذي بناه بورقيبة حيّدَهُ وأصبح لا يدخل في الأمور السياسية. وحتى انقلاب بن علي تم من خلال « الحرس الوطني » و« الأمن » أكثر منه من خلال الجيش. ولكن الجيش عندما استُدعي في هذه الظروف الصعبة، وقف مع الرئيس ولم يعمل لحسابه! أي، لم يخرج جنرال من الجيش ويقول « أنا الرئيس »!
سؤال: هنالك أوساط وحتى دول، مثل إيران، تتحدث عن إنقلاب مموّل ومدعوم من الخارج، والمقصود هو السعودية والإمارات طبعاً؟
الهوني: هذا غير صحيح. لأن المأساة التي أوقع فيها حزب « النهضة » تونس لم تكن بفعل السعودية أو أي دولة أخرى. إنها نتيجة لأفعال « النهضة »! وهذا الحدث الذي تمّ، أو ردّة الفعل التي تمّت من الرئيس ومن جماهير الشعب التي خرجت أمس، هي ردة فعل على ما فعل هؤلاء. على الفشل خلال العشر سنوات. على الفقر والإفقار والتهميش والبطالة، واضمحلال القدرة الشرائية للعملة، والخ.
سؤال: هل صحيح أن هنالك في تونس، في الفترة الأخيرة، ما يشبه الترحّم على أيام بن علي؟
الهوني: هذا قد يكون صحيحاً، بدليل أن « عبير موسي »، حسب استطلاعات الرأي، إذا حصلت إنتخابات الآن فيمكن لها أن تحوز على حوالي ٤٠ بالمئة من الأصوات! وهي تنتمي إلى الحزب البورقيبي أو الحزب الدستوري الذي كان « بن علي » جزءاً منه!
لكن، هنالك شيئا في تونس: من يريد أن يعرف المجتمع التونسي، عليه أن يعرف أن في تونس تنظيماً مهماً هو « تنظيم الإخوان المسلمين » المتمثل في حركة « النهضة ». ولا يوجد حزب آخر يستطيع أن ينافس هذا الحزب إلا حزب مؤقت، أو « جبهة »! مثل ما حصل في « نداء تونس »: تكوّنت « جبهة » ثم تشتّتت لاحقاً لأنها قامت ليس من أجل برنامج سياسي واقتصادي وإنما قامت من أجل أن تكون ضد « النهضة ». فهي حزب الضد. أو « القروي »، وهو رجل فاسد استطاع بفضل القنوات الفضائية وغير ذلك أن يخلق تنظيماً وأن يحصل على أصوات. ولذلك، في تونس لا تنظيم حقيقي، أي حزب منظم، غير حركة « النهضة ».
بقية المجتمع المدني، وهو من أفضل المجتمعات المدنية في الوطن العربي، لا يربطهم أي رابط! يتكلّمون ويكتبون ويجتمعون مع بعضهم ويتكلمون لغةً لا يعرفها الناس، ولم يعملوا أي حزب أو تنظيم يستطيع أن يسد الفراغ الموجود الآن في تونس. وهذه هي مأساة تونس، والخطر الذي ستتعرض له تونس.
سؤال: تقصد انفصال « النخبة » التونسية عن « الشعب » التونسي؟
الهوني: هذه نخبة مغتربة تتكم الفرنسية وتراقب قضايا فرنسا..
سؤال: نظام بن علي لعب دوراً أساسياً في ذلك! بعض كتّاب « الشفاف » كانوا يخضعون للاستجواب لدى عودتهم إلى تونس لمجرد المشاركة في مؤتمرات علمية بالخارج…
الهوني: هذا صحيح. ولكن مشكلة الديمقراطية يفهمها التوانسة والعرب بطريقة مختلفة. الديمقراطية ليست أنك تثرثر متى شئت، والآخر يحكم كما يشاء! الديمقراطية لا تُختَزَل في إنتخابات، وإن كانت شفّافة، وإن كانت نزيهة. الديمقراطية لها جوهر يسمّى « الحرية »، و « الحرية » ليست حرية الثرثرة، وإنما حرية الفرد في امتلاكه عقله وجسده وكَسبه!
أين المجتمع العربي الذي يؤمن بالحرية؟ لا يوجد! لنفترض أنك تحدثت قائلاً أن الإنسان يمكن أن « يغيّر دينه »! هذا هو لزوم وأساس الحرية. أو أن إنساناً عنده رأي مختلف عن « القطيع ». هذا لا يمكن أن يُسمّح به! حتى في تونس! ولذلك الديمقراطية فهموها فهماً خاطئاً، وهو أن الديمقراطية تعني « إنتخابات ». الإنتخابات هي عمل « إجرائي » للديمقراطية وليست عملا جوهرياً. الديمقراطية موضوع آخر تماماً. هذه المجتمعات التي تُعتبر المرأة فيها « نصف شهادة » وتأخذ « نصف إرث » لا يمكن بحال من الأحوال أن تكون مجتمعات ديمقراطية أو أن تؤمن بالديمقراطية! لأن الديمقراطية قائمة على المساواة بين المواطنين. إذا كان نصف المجتمع يُعتبر مُحقّراً ويُعتبَر « نِصف الرجل » فلا يمكن أن تُستَزرع الديمقراطية في مثل تلك المجتمعات.
سؤال: هل هنالك ردة عن الحقوق البورقيبية للمرأة في تونس؟
الهوني: المجتمع التونسي حتى الآن متقدم عن بقية المجتمعات في مجال حقوق المرأة، وله خصوصية إبجابية. خصوصيته تتم في عاملين مهمين: أولاً، حقوق المرأة وثانياً، عدم وجود « القبائل » أو « الطوائف »! لأن بورقيبة حارب العروش وأنهاها. كانت هنالك « هويات » وما زالت قائمة في تونس، ولكن يمكن معالجتها بالتنمية. في بقية البلدان العربية، قبائل وطوائف وإثنيات متقاتلة. هذا مجتمع لا يمكن أن يكون ديمقراطياً، بل بالعكس أن الديمقراطية إذا طبقناها في مجتمعات قَبَلية أو طائفية هي فقط تسرّع من تشظّي المجتمع وتقسيم الدولة.
سؤال: أنت ليبي، فكيف سينظر الليبيون والجزائريون والمغاربة إلى ما حدث في تونس؟ كيف ستؤثر تونس بشكل خاص على ليبيا التي تعيش وضعاً مأساوياً.
الهوني: ليبيا لا تؤثر فيها تونس، بل ليبيا يمكن أن تؤثّر في تونس. ليبيا مكان خطير جداً على تونس، وعلى الدولة التونسية. لأن هذا بلد لا توجد فيه دولة قائمة، وتحكمه عصابات مسلحة، وقادرة على إعطاء الأسلحة للعصابات الأخرى من خلال « التضامن الأيديولوجي » أو من خلال « البيع والشراء »! ولذلك، فإن ليبيا تشكل خطراً على تونس.
سؤال: يبدو أن العملية التي قام بها الرئيس التونسي قد نجحت. ما هو برنامجه، ماذا يمكن أن يحقق؟
الهوني: لا أستطيع أن أقول أنها نجحت. يجب أن نراقب هذه العملية. إذا كانت المراسيم التي وعدَ بها تسعى لحل المشكلة بشكل جذري، نقول أن العملية نجحت. أما إذا لم تكن كذلك، فلن تكون ناجحة. كيف تنجح هذه العملية؟
تنجح، أولا، بحلّ كل مجالس البلديات والولايات، وقيام الرئاسة بتعيين عمداء بلديات وحكام ولايات. حتى يصبح « الحكم المحلي » في يده! لأنه خلال العشر سنوات الماضية وضعت « النهضة » هؤلاء كلهم وهم من جماعتها. فكيف يستطيع الرئيس أن يحكم وبعض أجزاء تونس تتألف من هؤلاء الذي يريد اجتثاثهم أو تقليم أظافرهم. هذا أولاً. ومن ثم، ثانياً، يجب أن يسعى إلى وضع المجرمين أو الفاسدين، وهم تقريباً ٦٠ نائباً في البرلمان، إذا وضعهم في السجن، وهذا من حقه عبر تطبيق القانون، فحتى لو التأم البرلمان مجدداً بعد فترة معينة فسوف لن تكون لهم الأغلبية!
الشيء الآخر أنه إذا نجحت العملية التي قام بها الرئيس في الأمس هو مسارعة الدول لعمل مؤتمر لتونس لشطب ديونها (أعتقد أن ديون تونس حوالي ٥٠ مليار دولار) ومساعدتها إقتصاديا، فإذا حصل ذلك تنجح العملية.
ويبقى شرط أساسي وهو ألا تتخذ « النهضة » قرار الصدام المسلّح! إذا اعتمدت « النهضة » قرار « النضال المسلّح »، فستدخل تونس في حرب أهلية، وهنا يتوقف كل شيء، ولا يعود باستطاعتنا أن نتنبّأ بمصير تونس!
كل هذه الأشياء، بمجملها، مهمة جداً لأن قيس سعيّد الآن وحتى لو لم تقم « النهضة » بحرب أهلية ولم تحصل فوضى، فهو الآن أخذ كل الاختصاصات وكل السلطة، فهو مسؤول منذ اليوم عن البطالة وعن العلاج وعن الأكل وعن الشرب وعن الأمن. فإذا حدث إنهيار، تصبح المسألة خطيرة!
من هنا، لا نستطيع حتى الآن أن نقول نجحت، أو لم تنجح! هي محاولة لإنقاذ الدولة التونسية من التشظّي ومن السقوط.
سؤال: هل يمكن لتركيا أن تدفع « النهضة » باتجاه الحرب الأهلية؟
الهوني: بالنسبة للدول المتحزّبة مع « النهضة »، هؤلاء لن يقفوا مكتوفي الأيدي. وقد يقومون بأعمال تهزّ تونس. لأن المشكل عند الأحزاب الإسلامية، وللأسف، أنها ليست أحزاباً وطنية، بمعنى أن « الإخوان المسلمين » أينما كانوا لا يعترفون بالدولة الوطنية لأنهم يعتبرون أنها عبارة عن « لقيط » وأنها من فِعل الإستعمار والإمبريالية. ويعتبرون أن هذه الدولة، حتى لو استولوا عليها، ليست أكثر من وسيلة لقيام الخلافة الإسلامية.
ومن ثم، فالحركات الإسلامية إذا اضطرت لمغادرة السلطة، فإنها مستعدة لأن تحرق الوطن ككل! مثل « حماس » في غزة، هل تتنازل عن السلطة حتى لو تُحرَق غزة بالكامل؟ لا يمكن…
سؤال: علماً أن تركيا تملك قدرات عسكرية في ليبيا المجاورة..؟
الهوني: هذه هي المشكلة الآن. تركيا لها قواعد عسكرية، ولها جيش، ولها مرتزقة ولها أنصار، و « الإخوان » موجودون في ليبيا أيضاً، وكذلك حركات إسلامية أخرى بعضها إرهابية، ولهذا قلت لك أن ليبيا لا تتأثر بتونس بل يمكن أن تؤثر في تونس.
تحية للهوني على المقابلة في الشفاف…
مقابلة الهوني أكثر من رائعة. في التوقيت والأسئلة والأفكار