“أتش به اختيار” أي العمل من تلقاء النفس والتصرف بدون تلقي أوامر من أحد السمة البارزة في المظاهرات الحالية
القمع الذي مارسه الإيرانيون وبشكل مباشر من قبل “فيلق القدس” الإيراني ضد المتظاهرين العراقيين، الذين يواصلون التظاهر منذ أسابيع في العراق، اضافة الى الدعم اللوجستي للمليشيات العراقية لقمع المظاهرات الأخيرة، أوضح للعيان أنّ أساليب القمع التي تستخدمها ايران والتنكيل واستخدام الرصاص الحي والقنص ضد المتظاهرين السلميين في مختلف أنحاء العراق هي أكثر بطشاً وبلا رحمة و ولا تعترف بأي مبدأ انساني. كما أن تدخل إيران وعلى رأسها القيادات الإيرانية قائد فيلق القدس قاسم سليماني و اشرافه المباشر في التنكيل بالمتظاهرين العراقيين أوضح مدى توغل النظام الإيراني في المؤسسة الحكومية العراقية. إن الإخطبوط الإيراني في العراق ولبنان وبقية الدول العربية بات يشكل خطراً على الحراك المدني والتنمية المستديمة لهذه الدول، وبالنهاية يُعتبر خطراً قائماً على الأمن القومي العربي.
لتوضيح التدخل الإيراني في العراق نشرت صحيفة “النيويورك تايمز” بعض الوثائق السرية تحت عنوان “برقية إيران”. كشفت هذه الوثائق مدى تدخل إيران الاستخباري والأمني وتغلغلها في جميع مفاصل الدولة العراقية حيث توفر الوثائق أيضًا لمحة نادرة داخل النظام الإيراني السري. توضح البرقيات كيف نشأت توترات بين وحدات الاستخبارات الإيرانية، حيث قام اللواء قاسم سليماني، قائد قوة القدس التابعة للحرس الثوري الإيراني، بتجنيد وتعبئة الميليشيات العراقية للدفاع عن مصالحها.
وفي وقت من الأوقات، خشي عملاء وزارة الاستخبارات والأمن، “الاطلاعات”، وهي النسخة الإيرانية من “وكالة الاستخبارات المركزية”، من أن مكاسب إيران في العراق قد تبددت لأن العراقيين استاؤوا من الميليشيات. قبل كل شيء، ألقوا باللوم على اللواء سليماني، وانتقدوه لنشره صوراً على وسائل التواصل الاجتماعي تعلن عن دوره في الحملة العسكرية ضد الدولة الإسلامية.
أما الآن، فإن الدولة التي قامت بتصدير القمع والقتل لدول الجوار باتت تشهد نفس ما حلّ بالعراق، وكأن السحر قد انقلب على الساحر!
فقد شهدت أكثر من خمسين مدينة إيرانية قبل ثلاثة أيام مظاهرات دامية قتل أثرها حسب تقارير حقوقية أكثر من ٢٠٠ متظاهر إيراني. هذه ليست المظاهرات الأولى التي تشهدها البلاد طيلة الفترة الماضية لكنها الأكثر انتشاراً منذ مظاهرات ٢٠١٧، حيث كانت البلاد قبلها تشهد بين فترة و أخرى مظاهرات عمالية متفرقة على امتداد الخارطة الإيرانية، وذلك بسبب تردي الوضع العمالي و النقابي و كذلك جراء خصخصة بعض المصانع وطرد بعض العمال بسبب العجز الذي يواجه الاقتصاد الإيراني نتيجة العقوبات القاسية المفروضة على إيران ردّاً على برنامجها النووي وتدخلها في دول المنطقة العربية. لكن هذه المظاهرات الأكثر انتشاراً حيث جاء غضب الجماهير الإيرانية بعد السيناريو الأخير الذي اتخذته الحكومة وبتأييد معلن من قبل المرشد الإيراني علي خامنئي برفع أسعار المحروقات في المرحلة الثانية من الدعم المستهدف زيادة بنسبة 50 ٪ في سعر البنزين شبه المدعوم وزيادة بنسبة 25 ٪ في سعر البنزين المجاني. بُعيد الإعلان عن هذا القرار خرجت جماهير المتظاهرين الإيرانيين الغاضبين للشارع للتعبير عن غضبها، وتم حرق العديد من المراكز الحكومية ومقرات تابعة للحرس الثوري والمصارف والأسواق المالية التابعة لجهات نافذة ومقربة لحلقة المرشد.
رغم قطع “النت” بشكل كامل خلال اليومين الماضيين، وما يكلفه من خسائر تقدر بملايين الدولارات على جميع مفاصل الدولة، ظل المتظاهرون الإيرانيون صامدين مترابطين في الشارع يدفعهم حافز التغيير وشعار “مرك بر ديكتاتور” أي “الموت للديكتاتور”، أي ما يعادله في العربية “الشعب يريد إسقاط النظام“، ظل ايقونة يتمسك بها الكل في ايران. ان الشعوب في إيران بجميع أعراقها من أكراد، بلوش، عرب أحوازيين، أتراك أذريين وفرس يطمحون هذه المرة لثورة عارمة قد تطيح بالنظام الإيراني.
ما يميز المظاهرات الراهنة في إيران أنها لا تنتظر قيادات إيرانية في الخارج لكي تصدر لها أوامرها. وإنما كل شخص داخل الخريطة الإيرانية أصبح قائدا يتزعم مجموعة صغيرة لا تتجاوز العشرات وصار التسلسل القيادي في المظاهرات غير مجد حيث أن “أتش به اختيار” أي العمل من تلقاء النفس والتصرف بدون تلقي أوامر من أحد السمة البارزة في المظاهرات الحالية التي تشهدها إيران. حيث رغم وجود سلبيات عدم وجود الشخص الكاريزماتي الذي يشحذ الهمم للثورة. لكن الميزة في هذا النوع من الثورات أن الجميع قادة فيصعب على قوى المخابرات والأجهزة القمعية أن تطفئ نارها لأن مصدر النيران غير معروفة.
المفارقة الأخرى في المشهد الإيراني الحالي هو أنّ الخوف من اطلاق النار و القمع تبدد، وأصبح المتظاهر الإيراني يقف أمام فوهات بنادق الحرس الثوري دون أن يلوذ بالفرار. و هذه الشجاعة الفريدة من نوعها في مظاهرات إيران الحالية مشهودة للعيان، وارتفاع عدد القتلى دليل على هذه المواحهة. والعارفون بتاريخ إيران الحديث يعرفون جيداً بأنه كلما ارتفعت الأعداد التي قد تسقط نتيجة اطلاق النار، كلما اشتدت المواجهة و الأخذ بالثأر أصبح واجباً وطنياً وهذه النتيجة الحتمية من شأنها أن تسقط النظام لو استمر بأسلوبه الجديد-القديم هذا.
- محمد حسن فلاحية سحين سياسي سابق في سجن “إيفين” بطهران