بعد أن اجتاح وباء كورونا العالم في 2020 وأجبر الجميع على المكوث في المنزل، ازداد استخدام منصات صناعة المحتوى الترفيهي للتخفيف من حدة الملل آنذاك.
كان من أكثر المنصات انتشاراً وما زال تطبيق “تيك توك TiK Tok”، حيث استخدمه الشباب بنسبة أكبر في تقديم مشاهد تمثيلية أو مقاطع رقص على أنماط موسيقية مختلفة، وغيرها من الأفكار الترفيهية. لم نسمع أنه سُجن أحد صانعي المحتوى في العالم بسبب مقطع قصير به رقص، لكنه حدث في مصر حيث وجود كافة أشكال العبث الفكري الرجعي.
انتشرت مقاطع قصيرة في عام 2020 تظهر بها فتاة شابة في مقتبل عمرها تُدعى “حنين حسام“، ترقص بطريقة تعبيرية بجسدها على نمط موسيقي منتشر الآن في مصر. من خلال هذه المقاطع حسب عدد المشاهدات ووفقاً لسياسة التطبيق يمكن أن تُجني الشابة بعض الأموال التي تساعدها في المضي قدماً في حياتها، حيث أنه لا يتوفر الكثير من الخيارات للشباب داخل المجتمع المصري لجني المال نظراً للاقتصاد المترنح بجانب نُظم التعليم غير المتقدمة. استخدم نفس التطبيق من قبل العديد من الشباب حول العالم وعُرفوا بــ« المؤثرين » وحصلوا على المال من ذلك أيضاً؛ وهي لم تفعل شيئاً مغايراً للعالم.
في المجتمعات العربية، وتحديداً الإسلامية، لا حق للمرأة في جسدها؛ فهي خاضعة للوصاية الذكورية “البطريركية الأبوية”…
لم ترضِِ هذه المقاطع ــ حماة الفضيلة والقيم العلياــ داخل المجتمع، وكأنها ترقص بأجسادهم لا جسدها. أطلقوا وسماً على مواقع التواصل الاجتماعي بعنوان “قيم الأسرة المصرية”، وارفقوا به البعض من مقاطع حنين واصفين إياها بـ “العاهرة” وأن ما تقوم به من حركات يحمل في نظرهم “إيحاءات جنسية” تهدد ثوابت الأسرة المصرية المحافظة. يُعرف المجتمع المصري بإنه مجتمع “متدين بطبعه“، لذلك انتشر الوسم على مواقع التواصل الاجتماعي ولقي إقبالاً، وبناءً عليه تحركت الجهات الأمنية للقبض على الفتاة.
لم تكن حنين حسام الضحية الوحيدة لذكورية المجتمع السامة، بل ثمّة الكثيرات ممن لحقن بها في نفس القضية وقضايا أخرى بتهم مختلفة من بينها “نشر الفسق والفجور” أو “التعدي على قيم الأسرة المصرية”؛ فقط لكونهن مارسن حريتهن الإلكترونية والجسدية في حساباتهن الشخصية. حُكم أمس على حنين بالسجن لمدة ثلاث سنوات وتغريمها 200 ألف جنيه مصري، وذلك بعد أن صدر بحقها حكم غيابيا بالسجن لمدة عشر سنوات في يونيو الماضي، ومن ثم أعيدت محاكمتها بتهمة الاتجار بالبشر في القضية المعروفة إعلامياً بـ “فتيات التيك توك“، حيث تحول الترفيه إلى اتجار بالبشر في حين لم يعاقب التجار الحقيقين بالبشر.
عندما يفشل الفرد في مواجهة مشاكل مجتمعه الداخلية يتجه إلى استيراد مشاكل مجتمعات أخرى، ليدافع عنها!
لقد أودى مجتمع الفضيلة صاحب الموروثات الرجعية بالكثيرات إلى السجن باعتبارهن يهددن قيم الأسرة، واليوم يعتكف على الدفاع عن المرأة الفلسطينية منددين بالعنف تجاهها من قبل الإسرائيليين. المرأة الفلسطينية لم يسلبها حريتها غير الذكر العربي سواء أب أو أخ أو زوج أو جيران؛ فيمكن أن نتذكر الشابة “إسراء غريب” التي قتلها أهلها ومجتمعها، وليس المجتمع الإسرائيلي. نحن يجب أن نتعلم من المجتمع الإسرائيلي الذي أعطى للمرأة الحرية الكاملة في جسدها، بجانب الكثير من الحريات المتعلقة بالجندر والتنوع ولم يوصم النساء بالعاهرات لمجرد أنهن رقصن. كما يجب أن نركز على إصلاح مجتمعنا ونواجه الخلل المجتمعي والثقافي بداخله، بدلاً من استيراد سرديات مجتمعات أخرى ومناقشتها.
لن ينتهي العنف تجاه النساء اللواتي تعرضن للسجن بمجرد انتهاء عقوبتهن غير المستحقة، بل ينتظرهن جحيم آخر داخل المجتمع بعد خروجهن. يذكرنا هذا العبث المجتمعي بمشهد من فيلم ” ملف في الآداب” للكاتب وحيد حامد والمخرج عاطف الطيب، والذي يحكي قصة ثلاث موظفات اتُهمن ظلماً بممارسة البغاء وشهد الكثيرون زوراً بحقهن ثم براءتهن المحكمة. تصرخ إحدى المتهمات بعد سماع الحكم، بأن حكم البراءة لا فائدة منه سوف يحميها فقط من سجن الحكومة لكن لن يحميها من سجن المجتمع التي ستظل بداخله شريفة على الأوراق الرسمية فقط وفي نظره صاحبة ملف في الآداب.