كلما حاولنا الهرب من الواقع الذي نعيشه الى الخيال، نجده هو أيضاً يعيدنا الى واقعنا التعِب. نهرب ليس فقط كي نحتمل قلق كورونا وبؤس الاوضاع، لكن لأن أنفسنا تهفوا الى لحظات يحملنا فيها الخيال على أجنحته بعيداً؛ فنذهب الى الأدب، خصوصاً إذا أغرانا عنوان كـ”غرفة المسافرين”، لعزت القمحاوي الذي أحب كتابته، سواء كانت رواية او مقالة.
فنتساءل، ما الذي ستقصه علينا “غرفة المسافرين” هذه؟
هل ستأخذنا بعيداً الى ما يشبه محطات الاستراحة التي وصفتها لنا روايات كبار الكتّاب الروس، حيث كانت تتوقف عربات مسافري الرحلات الطويلة للراحة وتغيير الأحصنة وتجديد المؤن؟ هل سيتقمص شخصية موظف محطة من هذه المحطات ليحكي لنا بعض قصص هؤلاء المسافرين؟
لكنه بدلاً عن ذلك اختار أن يستعير مشاهدات من رحلاته، سواء في المدن أو في الكتب أو العمارة والرسوم كما من تجارب شخصية.
السفر انواع، ففي رواية توماس مان “موت في البندقية” يقوم البطل برحلته ليموت، لأنه تقبّل مخاطرة الاصابة بوباء الكوليرا، كي لا يبتعد عن الفتى الذي فَتَنَهُ بسحره الغامض. ربما كورونا يترك لنا حكايات مماثلة.
الرحلة الثانية كانت رحلة “الأمير الصغير”، الغلام الذي يتمتع بعذوبة فاتنة ويقطن كويكباً بمفرده. عندما يهيم بين الكواكب، يلتقي الطيار الذي تعطلت طائرته. فيستكملان سفرهما معاً.
لكن سانت أكزوبيري يلفتنا بلطف الى أن أجمل سفر هو الذي في متناول اليد: الخيال. فعندما طلب الفتى من الطيار أن يرسم له خروفاً، وبعد أن رسم له أكثر من خروف لم يعجبه أي منها. رسم له صندوقًاً وقال، إن الخروف الذي تريد بداخل الصندوق، ولدهشته فقد انشرح الصبي. الخيال أفضل مطية، عندما يسعف صاحبه.
تتجول مع الكاتب بين مدن عريقة بعمارتها وتراثها وفنها وناسها، بحيث تتمنى لو كنت برفقته هناك. ولكن بما أن الكاتب ينتمي الى العالم العربي كما نعهده، فلن يدعنا ننعم برحلات الخيال السعيدة ومغامراتها وحدها. سيخترع وسيلة ليعيدنا الى الواقع وينبهنا بوجود مدن سعيدة وأخرى حزينة.
فكيف تكون المدن الحزينة؟
إنها مدننا التي نعيش فيها، وتكشف عن نفسها من المطار. يحذرنا الكاتب من السفر ليلاً عموماً. لكن السفر الى مدينة حزينة في الليل هو المحنة بعينها التي ينبغي تجنبها مهما كلف الامر، خصوصاً عند انتقالك بين مطارين حزينين. وحذار، لا تغرنّك فخامة الصالات أو حداثتها فهذه لن تتمكن من تضليل المسافر، “لأن رائحة الحرية ورائحة الاستبداد في صالة الوصول لا يخطئها أنف”.
أول ما ستخضع له في مطارات تلك المدن، “أنصاف الآلهة” من الضباط الضجرين الذين سيتصرفون تبعاً لأمزجتهم. في مدن العالم الطبيعي قد ينام القانون، لكنه في المدن الحزينة لا يستيقظ. لذا سوف يخضعك الضابط، من دون سبب، لاستجواب عبثي يعتصر روحك. مع ذلك قد ينتهي بسهولة أيضاً، بتسوية بسيطة: “عدد صغير من الدولارات يُكرمش في اليد، قالب شوكولاتة، سجائر، أو أي من فواكه أشجار الأسواق الحرة”.
في ليل المدن الحزينة لن تكتفي بمشاعر قلق السفر المعتاد، سيضاف اليها الخوف. كل حركة تحمل خوفاً جديداً. ففي الليل تتعجل شجرة البطش بالنمو. و”العتمة مجاز الاستبداد، كما أن السفر مجاز العُمر”. لكن الكاتب يطلب الامتناع من السفر اليها، كل فلسطيني أو عراقي أو سوري أو يمني، لأنه سيُضطهد هناك في شكل اضافي.
واذا كان لا بد من السفر إلى مدينة حزينة فاحمل معك أخف حقيبة ممكنة، لأن إحدى تسالي موظفي الجمارك فتح الحقائب والعبث بمحتوياتها. فلن تحظى الحقيبة بحرمة أكبر من التي يُحظى بها صاحبها. واحرص أن ترتدي أفضل ما لديك. لأن “جلادي المطارات الحزينة يخشون كل السادة؛ فهم يتوهمون أنهم جميعهم اقرباء”.
دمشق نموذج المدينة غير المتباهية التي امتلكت فردوساً جميلاً من أناقة أرواح سكانها، وطعامها، وعمارتها القديمة وأسواقها. لكن أثقلت هواءها رائحة الخوف، وبددت رائحة الياسمين التي ضمخت قصائد نزار قباني. كان على زائرها أن يخفض صوته إذا أبدى ملاحظة بسيطة. وقد يجد نفسه محل ريبة من دون أن يتلفظ بكلمة. فمهنة الصحافة خطيرة في بلدان الاستبداد. لكن الحزن والخوف سيداهمانك في كل الاحوال، لا بسبب عدوان وقع عليك شخصياً، بل لرؤية العدوان يقع على آخرين ليس بوسعك أن تمد لهم يد العون.
عندما انتفض الناس ضد الخوف، تبدد الفردوس وبقي الخوف، بل تضاعف حتى صار خيمة وغيمة سميكة تُغلِّف ما تبقى من المدينة.
وإن كنت من عشاق دمشق، لن تتركك تلك الرائحة. وسيحاصرك شبح المدينة أينما ذهبت. فلربما قاطعتك سيدة في مدينة سعيدة: “تبعثون إلينا بلاجئين يبددون اطمئناننا، يهددون عاداتنا، ويأخذون وظائفنا. حينها ستضطر لذكر الفراديس العربية المفقودة، وتختنق بالبكاء. تغص بكلمة دمشق عندما تنطقها لتقول للسيدة: “بلادنا أيضاً جميلة، وأنتم ساهمتم في تدميرها. لكن هذا للأسف جرح لا يحسه أبناء المدن السعيدة”. ومن تسبب بتدمير دمشق يستكمل نشاطه في بيروت.
نسيت أن اقول إن المدن السعيدة تلك التي تقع الآن شمال المتوسط.
ربما علينا اتباع نصيحة توماس مان في تونيو كروجر “ألا نتعمق في النظر للأشياء إلى الحد الذي يجعلها محزنة”، لنحتفظ براحة الجهل.