(صورة تاريخية: في هذه الجلسة قبل ايام من اغتياله، قال الرئيس رفيق الحريري لوليد جنبلاط « أنا مِحمي، إنت انتبه لحالك »!!)
يطيب للبنانيين التعلق بشعارات يستخدمونها استنسابياً، وفق اجندتهم، للنيل من أخصامهم! ولعل أبرز هذه الشعارات، أن « وليد جنبلاط »، متقلب في السياسة وأنه يدور حول نفسه سياسياً، بسرعة قياسية!
لكن، أي زعيم سياسي في لبنان لم يدُر حول نفسه، ولم ينقلب على مواقفه ومبادئه، سياسية كانت ام غير سياسية؟
ألم يتقلًب سعد الحريري، وينقلب على 14 آذار؟
ألم يتقلّب سمير جعجع، وينقلب على 14 آذار؟
ألم يتقلّب ميشال عون، وينقلب على كل تراثه وتاريخه؟
لماذا وليد جنبلاط؟
لان جنبلاط يدرك بحسٍّ سياسي مرهف اشتُهِر به، ويُعرف عنه أن لديه « انتينات » سياسية، لا تخطيء الهدف. فيبادر ويجاهر حيث لا يجروء الآخرون!
يوم اغتيل والده، من ضمن مؤامرة، كانت تهدف الى إيقاظ الفتنة الدرزية المارونية، انطلقت جحافل من الدروز الغاضبين والمأجورين تعيث قتلا في القرى المسيحية، فترك وليد جنبلاط جثة والده مسجاة في قصر المختارة وراح يجول على القرى والبلدات التي امعن فيها المأجورين تقتيلا، لتهدئة الخواطر ووقف الفتنة.
في « حرب الجبل »، استعان بـ « الشياطين »، على غرار الموارنة قبله، حين يمموا شطر إسرائيل طلبا للمعونة في مواجهة مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية، لتحرير الجبل من مقاتلي “القوات اللبنانية” الذين تسللوا اليه تحت جنح الدبابات الاسرائيلية. وما لا يعرفه كثيرون هو أن وليد جنبلاط استعان بفلسطينيين وسوريين وخبراء روس في « حرب الجبل »! فالمدفعية في « عين الصحة » كانت بإشراف خبراء روس، أما الذين اقتحموا جبهة « القوات » في « بحمدون » فمعظمهم كان من الفلسطينيين!
وذات يوم، قرر هدم مدينة « الدامور » ذات الغالبية المارونية، بأكملها، كي لا يقطنها شيعة الجنوب بحجة الوضع الامني في الشريط الحدودي. فجنبلاط لا يريد ثغرات شيعية على مداخل الجبل!
يوم انطلاق « جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية » كان منزل جنبلاط في بيروت الحاضنة التي انطلقت منها الجبهة بقيادة جورج حاوي ومحسن ابراهيم والياس عطالله.
وليد جنبلاط كان اول من ادرك أهمية « لقاء قرنة شهوان »، وكان اول المبادرين الى الاستجابة لمواقف « اللقاء »، ودفع الكثير، في حينه، جراء تلك الاستجابة، تخوينا واتهاما من جماعة الوصاية السورية، ولم يعر تخوينهم اهتماما.
جنبلاط اول من استجاب لـ« نداء المطارنة الموارنة ». فكان اول سياسي لبناني غير ماروني يطالب باعادة انتشار القوات السورية تطبيقا لاتفاق الطائف من تحت قبة البرلمان، ونال نصيبه من التهديد والوعيد.
جنبلاط أدرك ان المصالحة مع المسيحيين حيوية للبلاد وللجبل، فلم يتوان لحظة عن السير بها، وملاقاة البطريرك الراحل نصرالله صفير في منتصف الطريق. فكانت « :مصالحة » انهت اكثر من قرنٍ ونصف من الصراع الدموي، بين الموارنة والدروز. وما زال يتمسك بهذه المصالحة ويوصي بها كل من حوله.
أعلاه، مقطع « الموارنة جنس عاطل »: هفوة وليد جنبلاط التاريخية التي استُخدمت ضده لسنوات. المشكلة في كلام جنبلاط ليس « عنصريته » الواضحة فقط! فقادة الميليشيات والأحزاب المسيحية والشيعية والسنية قالوا، ويقولون، أسوأ من ذلك. المشكلة أن هذا الكلام صدر عن زعيم حزب إشتراكي كان بعض المسيحينن دائماً جزءاً منه، وعن« زعيم المختارة » جنبلاط الذي لم يفكّر يوماً بتهجير الموارنة من.. « المختارة » بالذات! « سقطة » أو « هفوة » لا تليق بوليد، ولا بتاريخ الجنبلاطيين!
اول رسالة دموية وجهت لـ « المختارة » كانت اغتيال والده الشهيد كمال جنبلاط، عندما ادرك حجم الهيمنة الفلسطينية على القرار الوطني، وحجم المؤامرة التي ينفذها النظام السوري على لبنان.
وثاني رسالة دموية لجنبلاط، قبل ان تكرّ سبحة الشهداء، كانت تفجير النائب والوزير مروان حمادة، الذي نجا باعجوبة.
فهم جنبلاط الرسالة، وحذر شريكه الرئيس الشهيد رفيق الحريري. ويقال ان الرئيس الشهيد طمأن جنبلاط بأن مظلة الحماية الدولية له كبيرة، وأن أحداً لن يجروء على خرقها! وتالياً، على جنبلاط نفسه اخذ كل تدابير الحيطة والحذر! فكان ان إغتيل الرئيس رفيق الحريري، وفقد جنبلاط حاضنتَه « السُنِّية » والوطنية.
وعندما حاولت السلطة اللبنانية، ومن خلفها سلطة الوصاية السورية، « تسخيف » اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ووصفه بأنه « رذالة » (!)، كما قال رئيس الجمهورية آنذاك اميل لحود، والاكتفاء بمراسم جنازة رسمية، وحداد مدة ثلاثة ايام، يعود بعدها اللبنانيون الى حياتهم اليومية، ويتحضرون لانتخابات نيابية بعد شهرين، كانت نتائجها محسومة لصالح اكتساح الرئيس الشهيد رفيق الحريري وتياره اغلبية نيابية موصوفة مع الحلفاء، احد اسباب الاسراع في تنفيذ اغتياله.
يقول النائب السابق فارس سعيد: « صدمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري اربكت الجميع! فادركنا ان الحدث جَلل، والخسارة لا تعوض. ولكن، كيف السبيل لاقتحام منزل الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وإيفائه حقه في جنازته، وإقامة مأتم شعبي له؟ »
يضيف سعيد: « يومها، سبقَنا وليد جنبلاط الى « قريطم »، وفتح الباب، فدخلنا انا وسمير فرنجيه والياس عطالله وحكمت العيد، وكثُر وكان في انتظارنا الرئيس فؤاد السنيورة ووليد جنبلاط، وتمت صياغة بيان النعي للرئيس الشهيد الحريري، واتهام سوريا بالوقوف خلف الاغتيال.. وانطلقت شرارة ثورة الارز »!
كان وليد جنبلاط « عرّاب الثورة » وابوها في بدايات الاعتصام الشهير الذي بدأ في ساحة الشهداء!
فزوجته « نورا » اهتمت بكل الشؤون اللوجيستية للمعتصمين، وكانت معهم في شبه اقامة يومية. وهو كان محور الحركة السياسية، وضامنها. فالرئيس السنيورة والرئيس سعد الحريري لم يكونا قد استفاقا من الصدمة بعد! ولاقاه في الحشد والتأييد بطريركُ الموارنة نصرالله صفير، ولقاء « قرنة شهوان »، وصولا الى اليوم المشهود في 14 آذار من العام 2005.
لاحقاً، أدرك جنبلاط باكرا ان « 14 آذار » أصبحت عبئا على مكونها الرئيسي الرئيس الحريري و« تيار المستقبل »، بعد ان ضغطت المملكة العربية السعودية على الرئيس الحريري، وأجبرته على السير في ما سمي « السين سين »!
وبعد ان عرف جنبلاط ان أحد بنود اتفاق ما يسمى « السين سين » هو التخلي عن المحكمة الدولية، لقاء وقف النظام السوري لمذكرات توقيف في حق 32 شخصية لبنانية! فاختار الإبتعاد عن « 14 آذار » لعِلمه ان غياب المكون السني عنها سيضعفها، ويغرقها! فآثر الخروج باكراً، والاحتفاظ بالتحالف القديم مع الحريري وجعجع « على القطعة »! وقرأ جنبلاط بند التخلي عن المحكمة الدولية طعنةً له ولجمهور 14 آذار، بمعزل عن الاسباب! فآثر الصمت والابتعاد تدريجاً، ليصون « طائفة الموحدين الدروز » و« التعايش في الجبل » بعيدا عن المزايدات التي تُستعمل من أجل مصالح كل فريق داخل 14 آذار.
في غزوة بيروت، في السابع من أيار من العام 2008، بقي انصار جنبلاط يقاتلون في الجبل، والحقوا خسائر فادحة في صفوف “حزب الله“. وكانت خسارة الحزب الايراني المزيد من المقاتلين، خصوصا في منطقة « مرستي »، لولا ان جنبلاط أدرك ان الحليف الرئيسي، أي « تيار المستقبل »، هزم نفسه باكرا، وسقطت العاصمة بيد مقاتلي الحزب الايراني خلال اقل من ساعتين، بتواطوء من القوى الامنية اللبنانية وفي مقدمها قوى الجيش!
وما تزال صور الحواجز الامنية الرسمية تعمل على فتح الطرقات امام مقاتلي حسن نصرالله في شوارع بيروت شاهدا على هذا التخلّي للقوى الامنية عن واجبها الوحيد وهو حماية المدنيين! فسقط في تلك الغزوة اكثر من 80 مواطنا، تحت نظر القوى الامنية وأعينها!
في التسوية الرئاسية، أدرك جنبلاط ايضا أن 14 آذار أصبحت أثرا بعد عين، ولم يبق منها سوى فارس سعيد وسمير فرنجيه والياس عطالله ونصير الاسعد، وعددٌ من المستقلين، من كل الفئات الاجتماعية، الذين بقوا متمسكين بها، حتى آخر يوم في مبنى الامانة العامة في الاشرفية. فكان يُطلق التصاريح ويسدي النصح بضرورة عدم السير بتلك التسوية! كما ادرك مسبقا ان ترشيح سمير جعجع لمنصب رئاسة الجمهورية لن يؤدي الى أي نتيجة سوى المزيد من التأزيم السياسي! فرشّح النائب في كتلته « هنري حلو »، وعمل على المشاركة في جميع جلسات الاقتراع الرئاسية التي لم يكتمل نصابها. (الذين « قاموا » على وليد جنبلاط لأن « زعيماً درزياً رشّح مارونياً للرئاسة » (!!) عادوا فـ« أتحفوا » اللبنانيين بانتخاب مرشح إيران، ميشال عون، رئيساً!!).
رفض جنبلاط، ترشيح اي شخصية من 8 آذار، واعترض على مساعي الرئيس سعد الحريري، في ترشيح عون ومن ثم فرنجيه! ومن بعده الموافقة على تبني ترشيح عون، بعد ان تبنته “القوات اللبنانية” وجاهرت بأنه “رئيس صنع في لبنان“!
إلا أنه أدرك ايضا ان عدم موافقته، لن يفيده بشيء! فالتحق بالتسوية الرئاسية مرغما، بعد ان سبقه اليها حليفاه جعجع والحريري.
ضد قانون الإنتخاب « المِلّي »!
وقف جنبلاط ضد قانون الانتخابات الحالي، واعتبر انه يمثل خسارة موصوفة له وللحلفاء السابقين. إلا أن موافقة الحريري على القانون حملته على السير خلفه، من دون ان يوافق على القانون!
ورفض جنبلاط مقابلة مندوب بهاء الحريري في الرابع من تشرين اول/اكتوبر 2017، عندما حاول الاخير طرح نفسه بديلا من شقيقه الرئيس سعد الحريري!
يرفض جنبلاط اتهام المسيحيين الاشتراكيين، بأن « مسيحيتهم منقوصة »، وان المسيحي هو إما قواتي وإما عوني! اما من خرج عن هذا التصنيف، فهو عميل ومرتزق! ويصر على ترشيح مسيحيين على لوائحه الانتخابية.
يرفض جنبلاط، خوض غمار تجربة جبهة سياسية جديدة، على شاكلة « 14 آذار »، لعلمه ان « تيار المستقبل » غير جاهز بعد لهكذا تحالف! وانه و« القوات »، من دون « تيار المستقبل »، لا يستطيع احداث الفرق السياسي المطلوب!
في الانتخابات المقبلة أعلن جنبلاط انه متحالف مع « القوات البنانية »، ويتطلع الى استكمال التحالف مع « تيار المستقبل »، مع علمه ان حصته النيابية لن تزيد ولن تنقص بهذه التحالفات! ولكنه يصر على ان ما يجمعه بـ« القوات » و« تيار المستقبل »، كان وسيبقى اكبر من الذي يفرّق!
مساعدات إجتماعية لا تُضاهى!
عند اندلاع ما سمي « ثورة 17 تشرين »، عام 2019، رجع جنبلاط الى قواعده، في الشوف والجبل والاقليم وحيث يوجد لحزبه أنصار ومحازبون، وحوّل معتمديات الحزب الاشتراكي، وفروعه، في القرى والبلدات الى ما يشبه إدارة محلية لدعم البلديات والمؤسسات الرسمية، ولم يوفر من جيبه ومن ماله كل اشكال الدعم المطلوب. فأقام المشاتل الزراعية التي توزع الشتول على المزارعين مجانا، اضافة الى شراء الجرارات الزراعية والاسمدة والبذور، وتعمل على توزيع المحروقات على ابناء الجبل، ونظّم عمل المولدات الكهربائية، كما خلت مناطق نفوذه من طوابير الذل على محطات الوقود والافران في حين انها انتشرت في جميع الاراضي اللبنانية.
ما زال جنبلاط الى اليوم يتربص بالازمة الاقتصادية والمعيشية، ويعمل بما أوتي على مساندة الاهالي والوقوف الى جانبهم من دون تمييز بين طائفة او دين او مذهب، ويولي اهمية خاصة للمستشفيات في الجبل والشوف وعاليه وحاصبيا، وحيث يستطيع. حتى انه قدم ماكينات اوكسجين لبلدية دير الاحمر وقدم مساعدات لبلدية حراجل، ولم يدق بابه يوم صاحب حاجة وخرج من دون تلبيتها.
ممارسات « مافيوية »!.. و« صندوق المهجّرين »، ودفترين للمحاسبة!!
طوال سنوات تردّدت تساؤلات حول الممارسات المالية لوليد جنبلاط في زمن الإحتلال الأسدي للبنان. وتحدث بعض خصومه، وحتى بعض من ليسوا من خصومه، عن ممارسات « مافيوية » و « سلبطة »!
من جهته، أقر جنبلاط انه أهدر في صندوق المهجرين، ولكنه برر الهدر بالقول، إن الجبل كان مهدما بقراه ومدنه، المسيحية والدرزية، وهو في حاجة الى الكثير من الاموال لاعادة البناء! وما كان يقدمه صندوق المهجرين لم يكن يكفي لعملية اعادة البناء الشاملة، فغضَّ النظر عن استفادة عدد من طالبي المنح والهبات لاعادة اعمار منازلهم اكثر من مرة واحدة!
وأقر جنبلاط ذات يوم في مقابلة تلفزيونية، أنه يملك اكثر من دفتر للمحاسبة، واحد له وآخر للدولة، وهو مستثمر في مجالات عدة. وبرر امتلاكه اكثر من دفتر الى عدم عدالة النظام الضريبي في لبنان، وأنه على استعداد لامتلاك دفتر واحد يوم تستقيم جباية الضرائب في لبنان!