« نسأل الله أن يرزقَ شبابَ لبنان أياماً خير من هذه الايام البائسة“
قلائل بطاركة الموارنة الذين مرّوا مرورَ الكرام على « كرسي انطاكية وسائر المشرق »!
فكل واحد منهم ترك بصماته على تاريخ البلاد والعباد. إلا أن التاريخ لاي ستطيع ان ينصفهم جميعا، بل هو يحفظ في ثناياه إنجازاتٍ تاريخيةكان يقف وراءها كل بطريرك ماروني، من “مار يوحنا مارون” الى البطريرك الراعي.
ولعل التاريخ اللبناني الحديث يحفظ اسماء البطريرك الياس الحويك “الحلتاوي” من قضاء البترون، الذي طلب في “مؤتمر الصلح” في باريس ضمَّ الاقضية الاربعة الى متصرفية جبل لبنان، فكان لبنان المستقل المعروف بحدوده الدولية الحالية. ومثله البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، الذي عمل بكدٍّ وصمت لانجاز “الاستقلال الثاني”، اعتبارا من العام 2000 حين أطلق ما يعرف اليوم بـ”نداء المطارنة الموارنة” الذي أسس للاستقلال الثاني في العام 2005.
لعل ابرز ما يميز بطريرك الاستقلال الثاني صلابته!
وهو مقلٌّ في الكلام، إلا أن القليل الذي كان ينطق به كان يعبر خير تعبير عن واقع البلاد وأزماتها، وينم عن حس وإدراك سياسي دقيق وعن تشخيص جرّاح للوضع السياسي اللبناني، واضعا النقاط على الحروف بـ »ما قلّ ودلّ » من الكلام.
يوم زار قداسة البابا يوحنا بولس الثاني الشرق الاوسط، سأل الكاردينال صفير مرافقته الى دمشق، فرفض بتهذيبه المفرط، قائلا لقداسة البابا: « أذهب الى دمشق مع طائفتي، وأعود منها مع المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية، فإذا كانت لدى قداستك ضمانات بتلبية مطالبي فأنا سأرافقك الى دمشق »!
ويوم كان متوجها الى روما، في صالون الشرف في مطار رفيق الحريري الدولي، أراد احد الصحافيين إحراج البطريرك صفير بسؤاله عن عدم مرافقة قداسة البابا الى قصر المهاجرين مقر الرئيس السوري بشار الاسد، فأجاب غبطة البطريرك صفير: « أين يقع قصر المهاجرين؟ »!
وبعد تقاعده وأثناء مشاركته في قداس الشهداء الذي تحييه القوات اللبنانية سنويا، وكان قد أصبح بطريركا متقاعدا، وساءه ما آلت اليه الاوضاع العامة في البلاد، ولعله اراد ان يغمز من قناة خلفه البطريرك الراعي الذي كان زار سوريا بعيد انتخابه بطريركا، ولشدة شئمته رفض الحديث وتأبين شهداء القوات وفضّل الصلاة، من بعيد.
وبعدالحاح عليه ليقول كلمة، ارتجل قائلا: « نسأل الله أن يرزقَ شباب لبنان أياماً خير من هذه الايام البائسة“.
ولعل أبرز ما تجلت عنه بصيرة البطريرك صفير هو حكمه على قياديين إثنين عاصراه اولهما الرئيس الشهيد رفيق الحريري، والرئيس الحالي الجنرال عون.
فلقد توسم في الرئيس الحريري صديقا مخلصا، وقياديا سنّيا منفتحا يمكن العمل معه على بناء دولة عصرية ومنفتحة على محيطها وعلى العالم،فكانت علاقتهما من المتانة والصلابة بحيث لم ينجح احدفي دق اسفين بين الرجلين،على الرغم من التباين في وجهات النظر الذي كان يطرأ على علاقتهما،فكان علاجه لايتطلب حتى العتابب بينهما.
اما الجنرال عون، فلم يبدِ البطريرك صفير يوما حماسا لهوَس الجنرال بالسلطة، ولا لعقل الجنرال الموسوم بالبروياغندا والغوغوغائية. وهو رفض اي مقترح لتولي عون رئاسة الجمهورية، وساند “اتفاق الطائف”، ودعم النواب الذبن وقعوا عليه، مسيحيين ومسلمين، الامر الذي دفع بالجنرال الى تحريض انصاره على مهاجمة الصرح البطريركي واحتلاله والتعرض للبطريرك صفير بشتى صنوف الاهانات المعنوية والجسدية، فكان يجيبهم بكبريائه المعهدة على خطى السيد المسيح: « إغفر لهم يا أبتها لانهم لا يدرون ماذا يفعلون ».
أما علاقة غبطته برئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع فقد حكمها سوء فهم في بدايات تسلم صفير سدة كرسي انطاكية البطريركية، وهو المتحدر من أصول سياسية كتلوية، ويرفض منطق الميليشيات. وما زاد الطين بلة قتل المونسنيور « البير خريش ». حينها كيلت الاتهامات للقوات اللبنانية باغتيال المونسنيور المذكور، وكان البطريرك صفير من الذين يتهمون « القوات » بالوقوف وراء الاغتيال، الى ان قامت القوات بتحقيقاتها واوفدت الى البطريرك صفير نتائج التحقيق الذي أشار الى قتل المونسنيور بطعنه بسكين وليس اغتيالا بالرصاص، وتضمن الملف كل حيثيات عملية القتل. فكان ان اصيب صفير بصدمة، بعد ان تلقى وعدا ما زال ساري المفعول الى اليوم، بأن يبقى هذا التحقيق سريا وقيد الكتمان، وهذا ما التزمت به « القوات » وشكل نقطة تحول، في علاقة البطريرك صفير بـ »القوات » وبقائدها سمير جعجع. فكان يتفهم هواجس جعجع وصولا الى ان لقبّه انصار عون بـ“أبو سمير” بعد ان حمل على منكبيه قضية إطلاق سراح الدكتور جعجع من سجنه، وفتح الصرح البطريركي لانصار القوات باذلاً ما يستطيع من جهد لتخفيف معاناتهم بعد اعتقال قائدهم.
تقاعد صفير بإرادة حرة منه، بعد ان استشعر عبء المسؤوليات والجسد ينوء بحملها، فكان كبيرا حتى في استقالته من منصبه، ليبقي للمقام هيبته وحرمته.
يقف غبطة البطريرك صفير على مشارف عامه المئة، قامة صلبة، يتطلع الى عهده مطمئن البال الى انه سلم « الأمانة البطريركية »، من دون تنازلات ولا اوهام « احلاف اقليات »! بل عمل على تكريس وتأصيل وجود الموارنة في لبنان بصفتهم « مواطنين » وليسوا « نزلاء فندق »، او « لاجئين »، تاركا للتاريخ ان يحكم على عهده وعهد خلفه » بما ستؤول اليه الاوضاع العامة في البلاد.