اليهود هم آخر كائنات كوكب الأرض التي يحق لها إعفاء ترامب من المسؤولية، حتى وإن كانت جزئية، عن مجزرة الكنيس اليهودي في أميركا. ولكن معسكر اليمين القومي ـ الديني في إسرائيل يتفادى كل ما من شأنه تعكير صفو العلاقة بترامب، بعدما قدّم لهم السفارة في القدس، وشطب موضوع اللاجئين، ونفض يده من الاتفاق النووي مع إيران.
وليست هذه، في الواقع، نهاية الأحزان. فالمعسكر المذكور يُسهم في الحرب الأيديولوجية في الولايات المتحدة، أيضاً، التي يخوضها اليمين القومي، الديني، الأبيض (يسمّون أنفسهم محافظين، وجمهوريين). نشر يورام حزوني، أحد صبيان نتانياهو الأيديولوجيين قبل أسابيع كتاباً بعنوان “فضيلة القومية“. المذكور كان مديراً لمعهد شاليم، الذي أنشأه نتانياهو، على الطريقة الأميركية، قبل ثلاثة عقود، لبناء وترسيخ قاعدة أيديولوجية لليمين الصهيوني، الذي كان يشكو الفقر الفكري مقارنة بالصهيونية العمالية.
وقد سبق لحزوني، قبل سنوات أصبحت بعيدة، أن نشر كتاباً بعنوان “الدولة اليهودية: الصراع على روح إسرائيل“، وكان بمثابة مانفيستو موجة نتنياهو الصاعدة في السياسة والمجتمع الإسرائيليين، وتجلّت فيه محاولة إعادة الاعتبار لليمين الصهيوني. نتانياهو الأب، وهو مؤرّخ متوسط القيمة، أحد مؤرخي اليمين الصهيوني، وقد كانت لديه ثارات كثيرة مع العماليين، وبن غوريون، وحتى مع بيغين نفسه، وريث جابوتنسكي، خاصة بعد اتفاقية كامب ديفيد. المهم الأخ حزوني، كان حدّاداً أيديولوجياً أشطر من نتانياهو الأب، ولكنه لم يحد عن إطار “تنقيح“ الرواية التاريخية.
على أي حال، الأخ حزوني أميركي، أيضاً، ويشتغل في سوق السياسة والأيديولوجيا الأميركية. في هذا السياق يأتي كتابه الجديد بوصفه مرافعة في السوق الأميركية. وإذا أردنا اختزال الكتاب في عبارة واحدة فلنقل إنه يمثل إعادة صياغة لجملة لم يكف ستيف بانون، الذي صعد نجمه مع صعود ترامب، عن ترديدها، ومفادها أن “العالم يحتاج الحدود“.
لا يمكن اختزال تعبير اليمين الأميركي (وكل يمين آخر، في أي مكان آخر) في لون واحد، ولكن في النسقين لأميركي والغربي، في الوقت الحاضر، ثمة قواسم مشتركة تتمثل في العداء للعولمة، والهجرة، والمعاهدات الدولية ذات الصلة، والدفاع عن ضرورة إعادة الاعتبار لفكرة الحدود، والدولة القومية. ومشكلة اليمين الأميركي، والغربي عموماً، أنه فقد الكثير من صدقيته في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وعوملت أيديولوجيته بوصفها المًحرّض الرئيس على اندلاع الحربين الأولى والثانية، وبوصفها مسؤولة أيضاً عن النزعات الحصرية العنصرية، التي توجتها النازية بكارثة الهولوكوست.
لذا، وهنا يتجلى “ابتكار“ حزوني المدهش: في سياق إعادة الاعتبار لليمين ثمة ممرات إجبارية منها التعريج على موضوع القومية الأوروبية، وما علق بها من وحول الحربين الأولى والثانية، وصعود النازية وكارثة الهولوكوست. وقد مرّ الأخ حزوني بهذه الأشياء كلها ليخرج بنتيجة جديدة تماماً، تمثل في الواقع شهادة براءة للقومية الأوروبية، فقد أعفاها من المسؤولية عن الحروب، وحتى عن الهولوكوست.
خلاصة مُفزعة، لأنها تهدد بنسف كل ميراث الليبرالية الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، وتغسل القوميين الأوروبيين الجدد من عار أجدادهم القدامى. وفي السياق، وعلى الطريق، تنسف، أيضاً، المرافعة التاريخية التقليدية للصهيونية بشأن ظاهرة وتاريخ العداء للسامية في أوروبا بداية من صعود الحركات القومية الأوروبية، وظهور نموذج الدولة ـ الأمة، وحتى قيام الدولة الإسرائيلية.
والمهم في هذا كله أن الأخ حزوني يتغنى بفضيلة القومية الأوروبية، التي فُهمت على نحو خاطئ، وتستحق إعادة الاعتبار، على طريق العودة إلى نموذج الدولة ـ الأمة، بدلاً من إمبريالية الاتحاد الأوروبي، وإمبريالية العولمة.
المهم: هذه خلاصات مُفزعة. وكلّها يتطوّع صبي نتانياهو الأيديولوجي لطرحها في سوق الأفكار، في زمن ترامب، والشعبويات الصاعدة، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وخليط اليمين القومي، والديني، والقوميات البيضاء المعادية للأجانب والمهاجرين في أوروبا والولايات المتحدة. وإذا جاز التساؤل: لماذا كل هذا؟ فلن نجد صعوبة في العثور على إجابات محتملة من نوع أن لهذا كله صلة بموضوع القدس، والسفارة، واللاجئين، وما لا نعرف بعد من ابتكارات ترامب السياسية.
توليد الأفكار والمرافعات لا يحدث بطريقة تآمرية، بل ينجم عن تضافر عوامل اقتصادية واجتماعية وسياسية مختلفة، وعن وجود مزاج عام من نوع ما. لذا، من الحماقة التفكير في أشياء من نوع أن إعادة الاعتبار للقوميات الأوروبية يحدث بعد وصول ترامب إلى البيت الأبيض، أو لأسباب إسرائيلية صرفة. الواقع أكثر تعقيداً من تبسيط كهذا.
ومع ذلك، ثمة ما لا ينبغي التغاضي عنه، وما يجب التذكير به: في مشروع إعادة الاعتبار للقوميات الأوروبية يسعى الشعبويون والقوميون الجدد للتعبير عن محبّة لليهود تبدو مريبة، ولا يندر أن ينجو تعبيرهم عن عدم العداء للسامية من مبالغات، وأسهل طريقة للتعبير عن عدم العداء للسامية هي أن يسحبوا من رصيد الفلسطينيين، وأن يضيفوا ما سحبوا إلى رصيد الإسرائيليين.
وفي السياق نفسه، ثمة ما لا ينبغي التغاضي عنه، وما يجب التذكير به: اللعب مع القومية الأوروبية، وبها، ينطوي على مخاطر كثيرة. فالكراهية التي تستهدف المهاجرين، والمسلمين، والأجانب في الوقت الحاضر ستحوّل اليهودي إلى عدو في يوم ما. ومن مفارقات التاريخ ومكره أن معسكر اليمين القومي ـ الديني في إسرائيل يلعب بالقومية الأوروبية ومعها بطريقة سترتد سلباً في يوم ما على يهود يزعم النطق باسمهم والدفاع عنهم.
ثمة أشياء لا ينبغي اللعب معها ولا بها، حتى وإن كانت سفارة أميركية في القدس هي الثمن.
khaderhas1@hotmail.com