بداية الحرب الاهلية اللبنانية، كانت جماعة من الشبان المنتمين لحزب الكتائب اللبنانية، تتدرب على الانتظام في ميليشيا “القوى النظامية الكتائبية”، في احدى القرى المسيحية في جبل لبنان، باشراف جندي متقاعد من الجيش اللبناني. وكانت الجماعة تسير في الشارع الرئيسي للبلدة، في تدريب على ما يعرف بـ”النظام المرصوص”.
كان المدرب يعد وينظم خطوات الشبان، وهو يصيح “واحد إثنان ثلاثة”! وبدلا من “أربعة”، كان يصرخ “لبنان”، فتجيب الجماعة “لنا”.
لعل المدرسة التي تخرج منها الدكتور سمير جعجع، وهو ممن التحقوا باكرا بـ”الكتائب اللبنانية” مناضلا ومقاتلا، ما زالت راسخة في ذهنه: ان “لبنان” الذي كان للكتائب بداية الحرب الاهلية، في العام 1975، آل اليه هو اليوم!
فنظرة الحكيم الى لبنان تتدرج وتتقلب ضمن قواعد متغيرة، يحكمها منطقه هو، الذي لا يناقشه فيه سوى ملحم رياشي، الوحيد الذي استطاع اختراق قلب الحكيم وعقله، والوحيد الذي يستطيع ان يترجم اهواء الحكيم وافكاره، “مصالحات هشة” حينا، و”اتفاقات فضفاضة” حينا آخر.
ولعل نظرة الحكيم الى ان لبنان له، تعمقت حين أوهموه، ان “القوات” و “التيار العوني” يمثلان معا 86% من المسيحيين؟!
وقبلها جاء من يوهمه بأن قانون الانتخابات الافضل للبنانيين، هو حصرهم في مربعاتهم المذهبية، وليس حتى الطائفية، ما سمي حينها “القانون الارثوذكسي”! فتبنى القانون على حين غره، وكاد يتسبب بفرط عقد قوى 14 آذار، فقط ليستطيع جمع عدد من النواب المسيحيين ليعطوه صفة التمثيل الشرعي الذي افتقده لاكثر من سبب، ليس آخرها الزج به في السجن لاكثر من احد عشر عاما.
اتفاق “معراب”، الذي هندسه ملحم رياشي، كان قمة ما تفتقت عنه عبقرية الحكيم! حيث توهم، اولا، ان عون سيلتزم بنود الاتفاق، وثانيا، انه باتفاقه مع عون، برعاية رياشي-كنعان، سيحقق حلمه بوضع المسيحيين تحت عباءة حزبه، ولو بعد انتظار سنوات ست، هي نهاية عهد عون! بحيث كان الحكيم يراهن على تقدم العمر بالجنرال، وانه بموجب الاتفاق سوف يرثه، ويرث تياره، ويصبح الزعيم المسيحي الاوحد.
فيتحقق حلمه القديم بأن “لبنان له”.
واليوم، يبدو ان هناك من اوهم الحكيم، ان عليه مهادنة حزب الله، ليس ليقترع الحزب له رئيسا للجمهورية اللبنانية، لعلمه ان هذا الامر لن يتحقق، بل ليشارك الحزب في تسمية الرئيس المقبل, وهو لهذه الغاية، لا يجد احتلالا ايرانيا للبنان.
فات الحكيم الكثير من الامور، التي تجاهلها عن عمد او عن عدم معرفة، فالنتيجة سيان.
فاته ان هناك ثكنات للحرس الثوري الايراني في البقاع اللبناني، وهي قائمة منذ الثمانينات من القرن الماضي، تاريخ تأسيس ونشوء ما يسمى بـ “حزب الله”.
فاته ان املاك المسيحيين في مرجعيون الجنوبية بعضها مصادر من قبل الحرس الثوري الايراني.
فاته انه في حرب العام 2006، قتل العشرات من عناصر وقيادات الحرس الثوري في لبنان وتم الاحتفاظ بجثثهم في برادات المستشفيات في البقاع والرسول الاعظم ونقلوا تباعا الى ايران.
فاته انه في غزوة السابع من ايار قتل عناصر من الحرس الثوري الايراني في بلدة الشويفات في كمين نصبه لهم الدروز.
اذا لم يكن وجود هؤلاء احتلالاً فكيف يكون الاحتلال؟
ولعل الحكيم اراد من اعتباره مقولة الاحتلال الايراني شعارا فضفاضا، مد يد الحوار الى حزب الله، إلا أنه اختار العنوان الخطأ، فالاحتلال الايراني للبنان قائم، بصهاريج المازوت والبنزين التي تدخل الى لبنان من المعابر الشرعية وغير الشرعية، بحماية عناصر من حزب الله، لتعود محملة بدولارات وعملات صعبة تستنفذ الاحتياطي من العملات من المصرف المركزي؟
والاحتلال الايراني للبناني قائم باحاديث القادة الايرانيين من رجال دين وعسكريين، الذين اعتبروا ان انهم يسيطرون على اربع عواصم عربية من ضمنها بيروت!
الم يصل الى مسامع الحكيم حديث قائد فيلق القدس قاسم سليماني بعد صدور نتائج الانتخابات النيابية في العام 2014، حين اعلن انه يحوز على الاغلبية النيابية في المجلس النيابي اللبناني؟
هل يعترف الحكيم بالتصويت في مناطق سيطرة الثنائي الشيعي ليحمل اللبنانيين مسؤولية تصويتهم في الانتخابات الاخيرة من انهم لم يستطيعوا ايصال 70 نائباً سيادياً الى المجلس؟
وهل وصول 70 نائب سيادي على حد نعبيره، يحل مشكلة انتخاب رئيس للجمهورية؟ الم يتعلم الحكيم من تجربة تعطيل انتخابات الرئاسة سنتين ونصف السنة لايصال عون الى بعبدا؟
لعل الحكيم ونوابه أخطأوا كثيرا في حملاتهم الانتخابية حين صوبوا على سلاح حزب الله وتناسوا عن عمد بعد صدور نتائج الانتخابات سلاح التدمير الإيراني! ليتحول شعار الانتخابات إلى “ما فينا وما بدنا”، بدنا نصالح ونهادن حزب الله.
لعل الشعار “الفضفاض” أحرج كثيرا حكيم القوات. فحاول في حديثه لموقع اساس ميديا، ان يقلل من اهميته وان يهمش الجماعة اللبنانية التي ترفع هذا الشعار، في اعتباره انها من الـ 16% الباقين من المسيحيين، او المستقلين الذين لم يعترف بهم يوما، بل اراد استلحاقهم بحزبه، على ما أسرت زوجته ستريدا يوما للنائب نهاد المشنوق في عز انتفاضة 14 آذار، وخشية جعجع من حجم المستقلين الذي رفدوا تلك الانتفاضة بالرجال والافكار فقالت له “من لم يكن من “المستقبل” او من “القوات”، فلا حاجة لنا به” (“لشو بدنا ياه”).
يغيب الحكيم ليعود مطلقا مفاجآت لا تمت الى أدبيات القوات اللبنانية بصلة، بل هي تغوص في المارونية العميقة، التي اعتبرت انها تستطيع حكم لبنان كما تشاء، او انها تستقل عن لبنان اذا لم يكن كما تشاء.
اليس هذا ما صرح به مهندس اتفاق “اوعا خيك”، حين اعلن عن ان هدف الاتفاق قيام ثنائية مارونية لتحقيق التوازن اولا حسب زعمه وثانيا لاعادة الصلاحيات لرئاسة الجمهورية “بالممارسة” من “دون المس بنصوص” اتفاق الطائف؟
لا يعلم اللبنانيون، عموما، والمسيحيون خصوصا، والموارنة منهم على وجه التحديد، ما اذا كان عليهم ان يشكروا الله على جشع جبران باسيل الذي قوض “اتفاق معراب” وأجهضه!
فلو ان الاتفاق تم تطبيقه والتزم به التيار العوني لكنا نشهد ثنائية مدمرة كانت اتت على ما تبقى من لبنان.