لم أكن أتوقع أن أعيش ذلك اليوم الذي أجد فيه معظم اللبنانيين، بمن في ذلك الشارع السني، متعاطفين مع النائب سمير جعجع زعيم «القوات اللبنانية»، معتبرين إياه صاحب الرأي الجريء أمام طغيان السيد حسن نصرالله، وتهديده بأن لديه مئة ألف مقاتل مستعدين للرد على ما أصاب مناصريه من ضحايا في 14 أكتوبر 2021.
هذا ما شعرت به بعد أن شاهدت مقابلة النائب جعجع – رئيس حزب القوات اللبنانية – مع الإعلامي المميز مارسيل غانم على قناة MTV مساء الخميس 21 أكتوبر. وقد تأكدت من ذلك بنفسي بأن اتصلت هاتفياً بأصدقاء من الطائفة السنية من طرابلس وبيروت وشحيم. والأخيرة مدينة في قضاء الشوف أشبه ما تكون جزيرة سنية في محيط درزي يبلغ عدد سكانها حوالي خمسين ألفاً، وهي ممثلة بنائب سني. وقد اشتهرت إبان الحرب الأهلية اللبنانية 1975 كون أنه كان ينتمي اليها الضابط أحمد الخطيب الذي انشق عن الجيش اللبناني مؤسساً جيش لبنان العربي.
وكانت آراء من اتصلت بهم متقاربة جداً، وإن كانت غير متطابقة. فأحدهم عبر عن غضب الطائفة السنية ليس من هيمنة حزب الله فقط، وإنما عبر عن غضب من القيادات السنية التي رأى أنها ضعيفة على المستوى السياسي وعلى المستوى الروحاني، فأعلن بصراحة قائلاً «ليس جعجع هو الذي يمثلنا نحن السنة فقط، وإنما أجد نفسي مشدوداً لخطاب البطريرك بشارة الراعي أكثر من انجذابي لمفتي الجمهورية عبداللطيف دريان والذي أعتبره مفتياً للرئيس الحريري، وليس مفتياً للطائفة السنية». وعندما تحدثنا عن التاريخ العنيف للنائب جعجع، وأنه حوكم وسجن بسبب اتهامه باغتيال رئيس الوزراء السابق رشيد كرامي، أجاب «أغلب القادة السياسيين اللبنانيين لهم تاريخ إجرامي، لكن على الأقل سمير جعجع قضى 11 عاماً في السجن، أما الآخرون فظلوا دون عقاب».
هذا وقد بدا النائب جعجع هادئاً وواثقاً من نفسه في لقائه مع مارسيل غانم. واللقاء كان مهماً كونه جاء بعد أحداث مستديرة الطيونة في 14 أكتوبر، التي قتل فيها سبعة من المتظاهرين مدفوعين من الثنائي الشيعي «حزب الله» و«أمل»، كانوا قاصدين قصر العدل احتجاجاً على استمرار المحقق العدلي طارق بيطار للاستدعاء للتحقيق في انفجار المرفأ رموزاً شيعية مثل الوزير علي حسن خليل المنتمي لحركة أمل، التي يتزعمها رئيس المجلس النيابي نبيه بري. وكان اللقاء التلفزيوني مع سمير جعجع مهماً كونه جاء بعد خطاب السيد حسن نصرالله الذي هدد فيه بالانتقام من «القوات اللبنانية»، التي اتهمها السيد بأنها كانت وراء مقتل سبعة من أنصاره وأنصار «أمل». هذا وفي لقائه مع مارسيل غانم، قارن النائب جعجع بين أحداث عين الرمانة في 13 أبريل 1975 وأحداث مستديرة الطيونة في 14 أكتوبر 2021، واصفاً الأولى بأنها وقفة المسيحيين ضد هيمنة ياسر عرفات ومنظمة التحرير على لبنان، أما أحداث 14 أكتوبر 2021 فكانت وقفة كل اللبنانيين ضد هيمنة «حزب الله» وإيران على لبنان.
هنا وجدت نفسي في ضياع عاطفي وعقلاني نتيجة لتغير التحالفات على الساحة اللبنانية منذ اندلاع الحرب الأهلية 1975 والى الوقت الحالي. خاصة أن جعجع الذي بدأ حياته السياسية الحزبية هارباً من ثقل المحيط العربي على لبنان، تحول الى محتمٍ بالمحيط العربي من هيمنة إيران. وتمنيت أن ألتقي بثلاثة كتاب تخصصوا في الشأن اللبناني وغطوا أحداث الحرب الأهلية (1975 – 1990) وعرفتهم من خلال ما قرأت لهم في تلك الفترة. اثنان منهم انتقلا إلى رحمة الله وهما ايريك رولو اليهودي المصري اليساري، الذي كان مراسل لوموند الفرنسية في بيروت، والذي انتقل إلى رحمة الله في 2015، بعد أن منحته الجامعة الأمريكية في بيروت الدكتوراه الفخرية. والصحافي الثاني الذي أتمنى أن يكون حياً لنعرف رأيه بما يحدث في لبنان حالياً هو هنري تانر Henry Tanner السويسري المولد، والذي غطى أخبار الحرب الأهلية اللبنانية لصحيفة نيويورك تايمز، وانتقل إلى رحمة الله في 1998. أما الصحافي الثالث والذي أود أن التقيه، ولحسن الحظ ما يزال حياً هو ديفيد هيرست البريطاني الذي عمل مراسلاً للغارديان في تلك الفترة. هؤلاء الثلاثة: رولو وتانر وهيرست تميزوا بثقافتهم العميقة وبمعرفتهم لأكثر من لغة بما في ذلك اللغة العربية.
هؤلاء الثلاثة كانوا مصدري لأحداث لبنان خلال الحرب الأهلية (1975 – 1990) والتي عندما اندلعت شرارتها في 13 أبريل 1975، كنت طالباً في جامعة ميشيغان بالولايات المتحدة، واعتماداً على ما قرأت لهم وعلى خبرتي السابقة كطالب في الجامعة الأمريكية ببيروت، نشرت مقالاً عن الحرب اللبنانية بمجلة «المسيرة» التي كان تصدرها منظمة الطلبة العرب في الولايات المتحدة من مدينة آن آربر، وكان يرأس تحريرها المرحوم الدكتور أحمد بشارة، والذي أصبح بعد تخرجه أستاذاً للهندسة الكيميائية بجامعة الكويت. وكم تمنيت أن أعود إلى ما كتبت في ديسمبر 1975، والذي كان بعنوان: «الثورة في لبنان.. لماذا؟». لكني أعرف أن حماسي للقضية الفلسطينية جعلني أغفل عن التجاوزات الفلسطينية في لبنان. وأعرف كذلك أني في ما نشرت آنذاك لم أستشعر أو لم أتفهم خوف مسيحيي لبنان من ذوبان وجودهم في ظل الفوضى التي سببها التواجد الفلسطيني في لبنان، بعد هزيمتهم في الأردن على يد الملك حسين فيما سمي بأيلول الأسود. لكني أذكر أن ما نشرته كان نتيجة تأثير أحداث السبت الأسود علي شخصياً.
أشير هنا الى ذلك اليوم من 6 ديسمبر من 1975 الذي وضعت فيه الميليشيات المسيحية، والتي كان جعجع قيادياً فيها، نقاط تفتيش في منطقة مرفأ بيروت وقتلت مئات من المسلمين من اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين بناء على بطاقة الهوية. وقد حدث هذا بعد أن عثر على جثث أربعة من حزب الكتائب في منطقة الفنار. وبعد حادث السبت الأسود هذا انقسمت بيروت الى شرقية مسيحية وغربية مختلطة، وإن كانت غالبيتها من المسلمين. واستمرت منطقة راس بيروت في الجزء الغربي منها مقراً للهيئات الدبلوماسية العالمية واستضافت فنادقها مراسلي الصحافة والاعلام العالمي واستمرت ملاذاً لكل الطوائف.