شهدت سريلانكا مؤخرا تظاهرات شعبية واضطرابات وفوضى اقتصادية واجهتها حكومة الرئيس غوتابايا راجاباسكا باعلان حالة الطواريء وحظر التجول وحجب مواقع التواصل وتشديد الاجراءات الأمنية، بل أدت هذه الأحداث إلى إستقالة جميع وزراء الحكومة وانتقال 16 نائبا برلمانيا من صفوف الحزب الحاكم إلى صفوف المعارضة، الأمر الذي فقد معه حزب الرئيس راجاباسكا أغلبيته البرلمانية الضعيفة أصلا، وجعله يدعو إلمعارضة إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية لمعالجة الأوضاع.
الأسباب الكامنة وراء اندلاع الاحتجاجات الشعبية في هذا البلد الآسيوي الذي لا يكاد يخرج من أزمة إلا ويدخل أخرى، تتمثل في حدوث مأزق اقتصادي غير مسبوق أثّر على أحوال السكان البالغ تعدادهم 22 مليون نسمة. وهذا المأزق ناجم عن عدة عوامل تضافرت مع بعضها لتخلق أوضاعا صعبة بعد أن استبشر السريلانكيون بانتهاء الحرب الأهلية والخروج من أزمة دستورية قبل نحو ثلاث سنوات.
مما لا شك فيه أن الحرب الأوكرانية الراهنة وما تسببت فيه من قفزات كبيرة في أسعار النفط لعبت دورا في نشوء المأزق واستياء المواطنين من نقص الوقود والانقطاعات المستمرة للكهرباء لفترات تصل إلى 13 ساعة يوميا. أضف إلى ذلك تداعيات جائحة كورونا التي أدت إلى اغلاق المؤسسات وتوقف الأعمال وانقطاع الحركة السياحية (المصدر الرئيسي للدخل)، ناهيك عن انخفاض تحويلات العمالة السريلانكية من الخارج (المصدر التقليدي الرئيسي للعملة الصعبة). كل هذا وغيره أثر سلبا على قدرة الدولة على تأمين الوقود والغذاء والدواء والسلع الأخرى الضرورية. غير أن هناك عوامل داخلية صرفة ساهمت في وصول الأوضاع إلى حالة حرجة وكارثية. إذ لا يجب إغفال دور الحكومة الشعبوية الحالية في هذه الفوضى، كونها راهنت على الأغلبية السنهالية ومنظماتها المتشددة في تشييد نظام حكم مركزي صارم مع وعود بالإزدهار التي فشلت فيه الحكومات الإئتلافية السابقة.
فالرئيس راجاباكسا قدم خلال حملته للفوز برئاسة سريلانكا في عام 2019 رؤية للإستقرار السياسي والتقدم الاقتصادي بعد سنوات من المماحكات السياسية والانحدار الاقتصادي، وبموجب هذه الرؤية أقدمت حكومته بعد فترة وجيزة من توليه السلطة، على تخفيضات ضريبية ضخمة أدت إلى خفض إيراداتها بنسبة 28٪ (بحسب بيانات البنك المركزي السريلانكي). ما خلخل مسار الضبط المالي الذي سلكته الحكومة السابقة، وما تعارض أيضا مع نصائح ومراجعات صندوق النقد الدولي لعام 2019 التي تضمنت ضرورة بذل جهود متواصلة لزيادة الإيرادات في عام 2020 حماية للإقتصاد الوطني من الصدمات والضغوط مع السماح بمرونة سعر صرف الروبية.
كان من نتائج رؤية راجاباسكا أن راح اقتصاد البلاد ينحدر إلى الحضيض عاما بعد آخر مع تضاعف العجز التجاري (حتى وصل إلى 1.1 مليار دولار) وانخفاض احتياطيات النقد الأجنبي (حتى وصل الشهر الماضي إلى 2.3 مليار دولار فقط بعد أن كان 7.6 في عام 2019) وتفاقم مشاكل سداد السندات المستحقة (حتى بات عليها سداد مليار دولار مع حلول يوليو المقبل). وفي محاولة منها للسيطرة على الوضع قامت الحكومة باجراءات تضمنت خفض قيمة العملة المحلية وكبح جماح الوارادات ورفع أسعار الوقود وأسعار الفائدة، لكن تلك الإجراءات لم تأت بالنتائج المرجوة.
وبقرار كولومبو إغلاق برنامج صندوق النقد الدولي في البلاد في أوائل العام الماضي، زادت متاعبها خصوصا بعدما تم تخفيض التصنيف السيادي لسريلانكا إلى B- أولا ثم إلى CC فصارت بموجب ذلك مقيدة لجهة الوصول إلى العملات الأجنبية، الأمر الذي لم تجد معه مفرا من اللجوء إلى احتياطياتها من النقد الأجنبي لتسوية مدفوعاتها. وطوال هذه الفترة كابرت الحكومة فلم تذهب إلى صندوق النقد الدولي لطلب خطة انقاذ طارئة بحجة أن ذلك سوف يعرض سيادة البلاد للخطر، وفضلت، بدلا من ذلك، أن تلجأ إلى صفقات مقايضة مع كل من الهند والصين.
غير أنها، مع تفاقم الأوضاع الاقتصادية والمالية في أوائل العام الجاري، وتجنبا للإفلاس، اضطرت متأخرة كثيرا إلى طلب حزمة إنقاذ مالي من صندوق النقد الدولي، والسعي بالتزامن للحصول على قروض عاجلة من الهند.
وبطبيعة الحال، رأت نيودلهي في أزمة جارتها فرصة لتعزيز نفوذها الجيوسياسي هناك في مواجهة سياسات بكين المعروفة للتمدد في المحيط الهندي. وهكذا وافقت الحكومة الهندية على فتح خط ائتمان بقيمة مليار دولار لمساعدة كولومبو على شراء السلع الأساسية ، بما في ذلك النفط والأدوية. كما أنها قبلت إجراء محادثات مع نظيرتها السريلانكية لتقديم قرض للأخيرة بقيمة 1.5 مليار دولار.
أما صندوق النقد الدولي فقد قال في بيان له أنه لا يجري حاليًا محادثات مع كولومبو، لكنه يتعاون مع سلطاتها لتحديد برنامج إصلاح هيكلي شامل لسريلانكا يضمن لها اللازم النمو المستدام، مضيفا أن أي خطة تقدمه لأنتشال هذه البلاد من مأزقها وتجنيبها الإفلاس لا بد أن يشمل إجراءات صارمة وطويلة ومؤلمة مثل خفض الإنفاق الحكومي والإعانات ، وخصخصة الشركات المملوكة للدولة ، ووقف طباعة النقود ، وتعويم سعر الصرف ، وتسريح العاملين في القطاع العام، وهو ما يناور الرئيس راجاباسكا حوله خوفا من نقمة شعبية عارمة قد تطيح به.
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين