تشعل مريم الشمعة الـ(17) من عمرها في اليوم التالي لاشتعال شرارة الثورة التونسية.
…..
وبمناسبة الذكرى العاشرة لأول ثورة عربية في بلاد المختبر الأول لـ “الربيع العربي” تونس، حيث نقيم حاليا،ترجع بي الذاكرة الى الثورة الشبابية والشعبية اليمنية التي لاحت تباشيرها بعد يومين من مغادرة الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي بلاده في 14 يناير 2011. لست في وارد التعليق أو التنويع على ما تنشره الصحافة التونسية وما يتردد في الشارع التونسي، وما يصطخب ويغتلي ويمور، وعلى حجم الحنين لـ ” عهد الزين” لأني أدري وأثق تماما بأن تونس تزخر بقدرات وخبرات وكفاءات ثقافية وسياسية واقتصادية وبيروقراطية قادرة على اقالتها من عثرتها،باستخلاص مقاربات واقتراحات ناجعة لانقاذها من انحدار واضح الملامح، وانهيار وشيك، وأشياء صارت تفوح برائحة “يمننة” ليست غريبة علينا كأصحاب خبرة في الانتكاسات والانكسارات.
اشياء تفزعنا وتؤرقنا وتروّعنا على بلد جميل لن نشفى من حبه وعشقه- حسب محمود درويش.
…..
كانت مريم من المشاركين في الثورة الشبابية بل والطفولية اليمنية من ايامها الاولى، وقد دخلت ساحة التغيير والثورة وهي في السابعة من عمرها. وفي بعض الأحيان، كانت تنهض قبل امها واخواتها المنخرطات في العملية الثورية -ايضا- لتخاطبهن بنداء واجب التوجه الى: الساحة، الثورة.
من غير فخر ولا قرف، يمكنني القول أن صديقتي وابنتي مريم شاركت في الثورة من مستهلها،وكانت الحماسة تغمرها وهي تتلاشى وتذوي بين حشود عارمة من الصبايا والشباب اللاهثين والهتّيفه وراء الداعية الاخواني “دحابه” الذي كان يهتف: « لا دراسه ولا تدريس الا بسقوط الرئيس”! وكانت مريم تردد الهتاف مع الجموع الهادرة ولا تأبه حتى حين ينشف ريقها وعرقها ويغرب بريقها وتؤوب الى البيت شاحبة كالطيف.
لم تكن تعلم ان اطفال الداعية في المدارس وهي وغيرها من الأطفال الثوريين في الساحة يهتفون: لا دراسه ولا تدريس..؟!
لقد استعذبت مريم الشعار وكرهت المدرسة الى هذا اليوم الموافق لعيد ميلادها 18 ديسمبر 2020.
لا تختلف حالة مريم عن حال المئات والالاف من الاطفال الذين كرهوا المدارس قبل “الثورات”، وبعدها أكثر، لأن هذه الثورات، وخاصة العربية المشرقية، فسحت المجال للهتّيفة وأشباه الأميين، وللضجيج الذي لا يَسمع الا نفسه، بالصعود الى المنابر والسيطرة على المنصات والمناصب وقيادة الثورة واختطاف البلاد والعباد. وأصبح هؤلاء الذين لم يضعوا أقدامهم على عتبات المدارس والجامعات أكثر جراة واقتحامية وانتهابا للموارد والواجهات الأمامية، وترصّعوا برتب اللواء والمشير والفريق من غير تعب أو كدّ، وصار غير المتخرجين والراسبين في الابتدائية والاعدادية هم أصحاب الصدارة والسطوة والسلطة والنفوذ.
في لقاء مع صديق أودع قبل ايام رسالته للدكتوره بجامعة تونس(1) أخبرني ضاحكا بمرارة ان بناته واولاده الكبار يتبرمون منه مرار. فقد سبقوه في تحصيل الدكتوراه ولكنهم لم يحصلوا على فرصتهم في العمل، واصبحوا يلعنون اليوم الذي قرروا فيه تدبير امر اقامتهم على الأرض بهذه الصيغة ويصرخون في وجهه: بالله قلنا اي شهاده يحملها “السيد” عبد الملك الحوثي، »قائد الثورة”، وكل المشرفين والقادة اللذين يستحوذون على الثورة والثروة…. لقد خدعتنا يا أبي…قل لنا بالله ماالذي يجعل “دكاتره”في الجامعة يسيرون كالنعاج وراء اصغر مشرف اومشرفة « زينبيه”…قل لنا مالذي يجعل استاذ فلسفه تابع ذليل لطالب او طالبه ينتمي الى السلالة المليشاوية ويمنحه شهادة نجاح بامتياز وهو خارج الفصل!
في الذكرى العاشرة للثورة التونسية، والخاسرة للثورة اليمنية، أستطيع القول ان مريم كانت ثورية بجد،بصدق وبراءة،. واعترف بأني كنت اعاني من نقص او قصور ثوري، وغالطت نفسي وبنتي وغيرها من الثوريات والثوريين بالتنظير وعقد المقارنات بين ثورتهم وثورة الطلاب في فرنسا، او بين ثورتهم وتجربة غاندي…!!!
كان المطلوب مني النزول ميدانيا، والكف عن هدر الوقت بالتنظير، وصار بمقدور مريم ان تمارس دورا قياديا على من هو اكبر منها، علينا شخصيا..!
اشتجرت ذات يوم مع صديقة لها غير ثورية. كانت تطل من بلكونة شقتنا في الدور الرابع وتتبادل الصراخ مع صاحبتها الشاخصة نحوها من الحوش. وحين احتد التلاسن ألجَمَت مريم صاحبتها حين صرخت من شاهق: من انت… اين كنت لما كنا في الساحة.. في الثورة يا بنتي؟!
لاذت البنت بدارها وحضن امها وصارت تهاب مريم وتخشاها، أما انا فقد ارتعدتُ وارتج ذهني بأجراس العنف الثوري الذي أكل زهرة عمري… انه هو كما عرفته في ايام الصبا.
في تلك الايام كان بعض الثوريين من صفوة القوم يتأبطون اولادهم في كل جمعة الى الساحة لأداء الصلاة والهتاف بموت وهلاك الجماعة التي تقيم الصلاة في القسم الاخر من العاصمة وتهتف بموت الجماعة الثورية.
لم تكن مريم تحب المدرسة ولا المشاركة في طقس جماعي كهذا، وكذلك كان حال عائلتنا،والحمد لله.
عشية عيد ميلادها الـ(17)، تحيرت في امر الهدية التي سأقدمها لها في اليوم التالي لاندلاع شرارة الثورة التونسية في 17 ديسمبر 2010.
يا الهي، كم اصبح اطفال هذا الزمان غرباء عن هذا الزمان..؟!
يكرهون الثورة والمدرسة وحتى الشيطان لا يعلم أي هدية يمكن ان ترضيهم.
وبالمناسبة، لا اتصور انها تحتاج الى “وقفة نقدية”تراجع فيها موقفها من المدرسة والثورة لأني املك خبرة غير سارة مع الوقفات النقدية بحكم انتمائي السابق لحزب يساري جذري كان كلما عمل “وقفة” يحتاج في اليوم التالي الى كبش يذبحه ويذبح نفسه معه.
اعرف بأنها ستعرف طريقها بالموسيقى التي تعشقها، وبامتلاكها لحسّ ايقاعي من الرضاعة، وخبرة في العزف على الصحون والطناجر والقلاصات والابواب والدواليب وصولا الى القيثارة والعود، ولا تنقطع عن الغناء والترانيم، ما يجعلني لا استبعد ان يركع المستقبل اللامع عند قدميها.
عيد ميلاد مجيد يا مريم.