رغم أن الكثير من الاشتراكيين استغلوا أزمة وباء كورونا لمهاجمة فكرة الرأسمالية باعتبار أن دُولًا رأسمالية عريقة، واستشهدوا في ذلك بالولايات المتحدة، فشلت حتى الآن في مواجهة المرض، إلا أن الشواهد المتعلقة بالأزمة والأسباب التي على أساسها انتشر المرض والسبل المعتمدة لمواجهة الوباء، اختلفت من بلد إلى آخر. فمسألة نجاح أو فشل مواجهة المرض لا ترتبط بنوع الأنظمة الحاكمة بقدر ارتباطها بسلوك الأنظمة وبقدرتها على تشكيل نظام صحي قادر على وقف تفشّيه.
لذا، نحن لسنا أمام صراع بين الرأسمالية ونجاحها أو فشلها في صدّ الوباء، وبين بديلها الذي يطالب به البعض من أجل هذه المهمة، أي الاشتراكية، إنما عالمنا الذي يعيش في ظل نوعين من الأنظمة: الرأسمالية الليبرالية، ونظام الحزب الواحد أو النظام الذي يهيمن عليه الفرد، أصبح يسعى لمواجهة المرض ومعالجة آثاره على مختلف الصعد.
أما الزعم بأن اشتراكية الصين هي التي ساهمت في التغلب على المرض، وأن رأسمالية أمريكا فشلت، ففي هذه العبارة الكثير من المغالطة. فالنظام الصيني تنازل عن بعض أسس اشتراكيته، وخاصة ما يتعلق برؤيته الاقتصادية، التي أصبحت رؤية رأسمالية، ما يتوجب إيجاد مسمى آخر لهذا النظام غير الاشتراكية. كما أن هناك العديد من الشكوك بشأن مستوى النجاح الصيني والأرقام المعلنة من قبل السلطات الصينية (صاحبة الإحصائيات المبهمة) حول سيطرتها على المرض. في مقابل ذلك هناك دول رأسمالية ليبرالية، ككوريا الجنوبية واليابان وألمانيا، أبلت بلاء جيدا جدا لوقف تفشي المرض.
لن يكون الوباء ساحة تنافس بين الأفكار والأيديولوجيات! فهو لا يُعتبر ظرفا عاديا قد يستمر لعقود من الزمن ليتم من خلاله معرفة كيف يمكن لهذه الأفكار أن تدير الحياة، بل هو ظرف خاص وحالة طوارئ مؤقتة ستنتهي قريبا، لذا تحتاج إلى “إجراءات استثنائية”، سياسية واقتصادية وصحية واجتماعية، لمعالجتها. فنحن أمام مرحلة طارئة أثّرت على مجمل ظروفنا.
لذا يمكن لأي نظام سياسي مهما كانت هويته ومهما تبنى من أفكار أن يطبق هذه الإجراءات، أكان نظاما فرديا، أو هيمن عليه الحزب الواحد، أو رأسماليا ليبراليا. وفي ظل أنظمة الحزب الواحد، ومنها المسماة بالاشتراكية، لم نقرأ إلا عن نجاحٍ صيني في مواجهة الوباء، مثلما قرأنا عن نجاحٍ لأنظمة فردية ولدول رأسمالية ليبرالية.
نعم، سيقود الوباء إلى تضرر الاقتصادات، وقد يكون للفكر الرأسمالي دور في ذلك، لكن لن يكون الاقتصاد الرأسمالي هو المتضرر الوحيد، وإنما ستتضرر اقتصادات مختلف الدول، بتنوع هوياتها، الغنية والفقيرة، وتلك الخاضعة لسيطرة الحكومة، أو التي تجمع بين الرأسمالية وسيطرة الحكومة. فالاقتصاد العالمي متّجه نحو انكماش حاد وسيقود ذلك إلى كساد عميق. غير أن هذا الكساد، وحسب العديد من التجارب السابقة، ستتم معالجته بتبني خطوات خاصة.
رئيس البنك الدولي “ديفيد مالباس” قال الجمعة إن البنك يعتزم الرد بقوة وبشكل واسع لمواجهة الركود المتوقع بسبب كورونا. وأكد أن مواجهة الركود ستكون ببرامج دعم، لاسيما للدول الفقيرة. وقال: “نريد أن نستفيد على أفضل وجه من موارد البنك الدولي الواسعة وخبرته العالمية والمعرفة التاريخية بالأزمات”.
في بداية ظهور كورونا في الصين، خرج البعض ممن يؤمن بنظرية المؤامرة من أنصار “الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية” ليقول بأن المرض هو “مؤامرة إمبريالية” نفذتها أمريكا لتخريب الاقتصاد الصيني الذي بات “عملاقا يهدّد المصالح الأمريكية بوصفها رأس الرأسمالية العالمية”.
لكن، ما أن اجتاح الوباء أوروبا الغربية والولايات المتحدة، حتى اختفت نظرية المؤامرة وتحول الحديث إلى “فشل” الدول الرأسمالية في مواجهة المرض، رغم أن تفشيه في الدول الغربية وضع علامة استفهام كبيرة أمام حقيقة صحة الإجراءات الصينية، وشكك في أرقام بكين.
بعبارة أخرى، يسعى الاشتراكيون للتطبيل للنظام الاشتراكي على وقع أي أزمة عالمية تطال مختلف الدول بما فيها الدول الرأسمالية الليبرالية، لعلهم يستطيعون من خلال ذلك أن يثبتوا قدرة الاشتراكية في أن تكون بديلا ناجحا. في حين كان بمقدورهم إنجاح نموذجهم دون الحاجة إلى تحفيز الجهود لمهاجمة الرأسمالية، لكن واقع الأمر يقول بأنه لا توجد تجربة لدولة اشتراكية ناجحة أو بديلة عن الدولة الرأسمالية.
نعم، هناك رأسمالية متوحشة معولمة بصورة مفرطة، وبدأت تحصد أخطاءها مع بدء أزمة كورونا، لكن ذلك لا يعني أن بديلها هو الاشتراكية، كما لا يعني انتفاء سبل تصحيح أخطائها. بل يعني، كما تشير التجارب، القدرة على التصحيح ضمن أطرها الفكرية في ظل تعدد النماذج المطروحة وفي إطار ديناميكية الهبوط ثم الصعود مجددا فيها.
فمن رحم هذه الأزمة ستولد رأسمالية جديدة، وبالطبع أمريكا جديدة أيضا.