كيف، ولماذا، وما معنى أن يكون الفلسطيني يسارياً وديمقراطياً في 2019؟
مناسبة هذه الأسئلة أن خمسة فصائل يسارية اجتمعت في ائتلاف أسمته “التجمّع الديمقراطي”، لإقناع طرفين هما فتح وحماس، عن طريق “الضغط الشعبي“، بالمصالحة. بكلام آخر، يسعى التجمّع للتوفيق بين رأسين كبيرين بالحلال الوطني.
بداية، أصبحت صفة ديمقراطي أكثر من “الهم على القلب“ في طول العالم العربي وعرضه، ولم تعد أكثر من كليشيه بلا مضامين جدية أو فعلية، بل ويمكن فعلاً، وقولاً، أن تصر بعض الفصائل على كونها ديمقراطية حتى وإن تزعّمها أشخاص لم يتغيّروا منذ نصف قرن. والواقع أن لتفريغ الديمقراطية من المعنى فوائد لا تعد ولا تحصى، فلم يعد من واجب “الديمقراطيين“، مثلاً، تفسير أو تبرير شروط ودلالة أن يكونوا ديمقراطيين.
في وقت مضى، كانت أشياء من نوع التمييز بين التناقض الرئيس والتناقض الثانوي، ووحدة وصراع الأضداد، من الرياضات الذهنية الشائعة في أوساط اليساريين، وغالباً ما تسبب الخلاف بشأن ترجماتها السياسية المُحتملة في أكثر من داحس والغبراء، بالمعنى الأيديولوجي طبعاً. كان الكثير مما قيل، في ذلك الزمن، فارغاً على الأرجح. ومع ذلك، يحنّ الإنسان، في زمن التصحير والتصحّر هذا، حتى إلى كلام فارغ كان أهون ألف مرّة من فقر الدم الذي ضرب اللغة والمخيال السياسيين. لغة واحدة، باردة، ومحايدة، كالزي المدرسي الموّحد.
وفي هذا نقول: أما وقد تخفّف اليسار من أحماله الأيديولوجية، وبضاعته النظرية، “مش فاضي“ طبعاً، فلم يعد يرى لنفسه، وفي نفسه، دوراً أكثر، أو أبعد، من دور المُحلل الوطني الساهر على التمييز ما بين حلال المصالحة، وحرام الانقسام. وإن رمدت أعين فتح وحماس بالغيّ والهوى، سيرغمهما اليسار، (ولا تنس الديمقراطي)، مدعوماً من الشعب، ومستعيناً به، على العودة إلى الطريق الوطني القويم.
وفي هذا، أيضاً، نقول: من المفارقة أن مخيال اليسار ديني، وكذلك لغته، ولا عجب. ولو لم تكن بطانة مخياله السياسي دينية لما سكت عن الانقلاب، ففي السكوت عنه ما يُبرر ويفسّر دلالة واحتمال الغفران على قاعدة المساواة بين فتح وحماس، وفي المساواة ما يعني اقتسام الدم، وفي اقتسام الدم ما يجعل الخلاف السياسي مجرّد مشكلة عائلية، وفي المشكلة العائلية ما يعيد الاعتبار إلى أولوية العُرف والتقاليد على حساب السياسة.
وطالما أن الأمر كذلك، والأمر كذلك، فعلاً، لا يعثر اليسار (ولا تنس الديمقراطي) على ما يضفي دلالة أخلاقية رفيعة على موقفه المحايد من “الانقسام“ وحسب، بل ويكسب ثاني الحسنيين كوسيط في مسعى “المصالحة“، أيضاً. وكلا التعبيرين مُضلل وفاسد.
الانقسام قناع يخفي الوجه البشع للانقلاب. والمصالحة تُموّه الانقلاب الدموي بوصفه “طوشة“ بين فرعين من عائلة واحدة، وتستبعد أن تكون فيه حقائق اجتماعية وسياسية، مُحرجة وعويصة، عميقة الجذور، وبعيدة المدى. ولا ينبغي لعاقل، في كل الأحوال، تجاهل أن في 11 عاماً مرّت على “الانقسام“، واستعصت على “المصالحة“ ما يبرر طرح أسئلة من نوع جديد بدلاً من تبسيط وبساطة المشكلة العائلية.
ومع ذلك، ثمة أسئلة من نوع آخر: هل يستمد اليسار (ولا تنس الديمقراطي) مبرر وجوده، وجدواه، وفعاليته السياسية، من وظيفة المُحلل الوطني، والوسيط، فقط؟ ولماذا لا يرى في نفسه بديلا لفتح وحماس معاً، أي لليمين السياسي والديني، مثلاً؟
ولماذا لا يتأمل حقيقة أن ما يجعل الإنسان يسارياً، وديمقراطياً في آن، لا يصدر عن جمل إنشائية وعموميات، بل عن “تحليل ملموس لواقع مادي ملموس“، وأن في أمر كهذا ما يستدعي نقد ونقض فتح وحماس معاً، لا بمعنى “أنتم مع أوسلو أم ضدها“، بل بمعنى تحليل العلاقة بين التكوين الطبقي والمشروع السياسي والاجتماعي والمرافعات الأيديولوجية، والخروج بنتائج واستنتاجات بعيدة المدى؟
وأخيراً، لماذا لا يطرح اليسار (ولا تنس الديمقراطي) نفسه بديلاً لفتح وحماس، معاً؟ ولا عيب في ذلك، ولا انتقاص من وطنية أحد. فمن تقاليد وأصول اللعبة الديمقراطية أن ترى مختلف القوى السياسية في نفسها، وفي برنامجها السياسي والاجتماعي، ما يصلح لقيادة الدفة الوطنية، وما ينبغي أن يكون بديلاً لكل البضاعة المُتداولة في سوق السياسة.
وفي هذا ما يستدعي، ضمن أمور أخرى، كشف الخلل، على الملأ، في برامج الآخرين لإقناع جمهور الناخبين بالانفضاض عنهم. وبهذا المعنى، في مسعى “المصالحة“ لا يشتغل اليسار في خدمة فتح وحماس وحسب، بل ويشطب نفسه راضياً مرضياً من معادلة واحتمال أن يكون البديل، أيضاً.
وقد أهلكنا اليسار (ولا تنس الديمقراطي) وصدّع رؤوسنا بالكلام عن أوسلو، وكارثة أوسلو، ونظام أوسلو، والانفراد بالسلطة من جانب فتح واحتكارها، ورفض الشراكة الوطنية على مدار عقود أصبحت طويلة الآن. وربما كان ذلك صحيحاً في حالات كثيرة.
ولكن، ماذا عن نقد “الإسلام السياسي“، وعن مشروعه، وميوله الانقلابية، وسلطة حماس في غزة، وماذا عن العلاقة بين الديني والوطني في الحقل السياسي؟ ألا تحتاج معادلة “وحدة القوى الوطنية والإسلامية“ إلى براهين، ودارسة مقارنة، وإلى “قليل“ من الاجتهاد النظري، على الأقل؟ وماذا لو ثبت أن الجمع بين الاثنين قليل المردود، وباهظ التكاليف؟
ليت اليسار (دون أن ننسى الديمقراطي) صدّع رؤوسنا، وأهلكنا، حتى بواحد بالمائة مما تثير أسئلة كهذه من هموم فكرية وسياسية، وما تستدعي، في حقل السياسة، مِنْ، وتحرّض على، إجابات. فلو فعل لارتفع مستوى السجال السياسي في بلادنا واغتنى.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني