يبرز للعيان تغييب اليونان جارة ليبيا التي قالت بالصوت الملآن إنها لن تسمح بتمرير موافقة الاتحاد الأوروبي على اتفاقيات أنقرة مع حكومة السراج. أما الأدهى فهو تغييب تونس عن المؤتمر.
يزداد التدخل الدولي والإقليمي في الشأن الليبي عشية مؤتمر برلين الذي ترعاه منظمة الأمم المتحدة، مع رهان على بلورة خارطة طريق للحل.
لقد تحولت ليبيا منذ 2011 وأصبحت ساحة للعديد من اللاعبين الخارجيين، وهؤلاء من المنخرطين بدرجات متفاوتة في النزاع الليبي سيلتقون الأحد 19 يناير الجاري في العاصمة الألمانية بحثا عن اتفاق سياسي وتفادي تفاقم الصراع خاصة بعد التدخل التركي الذي ينذر بعواقب خطيرة داخليا وإقليميا.
لا تبدو الشروط الذاتية والظروف الموضوعية متوافرة لوقف الدوران في الحلقة المفرغة نظرا للتهافت الخارجي والطمع المكشوف بثروات ليبيا وخيراتها، واستنادا إلى عدم تحمل المجموعة الدولية لمسؤولياتها بعد تسع سنوات على إسهامها وتغطيتها سقوط نظام العقيد معمر القذافي، من دون العمل الفعلي على إعادة بناء ليبيا ودولتها.
خلال السنوات الماضية، أصبح النزاع الليبي متعدّد الأقطاب وله بعده الداخلي عبر الميليشيات والقوى المتناحرة وخاصة الكتلتين الرئيسيتين إحداهما في الشرق والجنوب الليبي وبعض الغرب بقيادة المشير خليفة حفتر، قائد الجيش الوطني، المستمد شرعيته من البرلمان الليبي في طبرق المنتخب في العام 2014. والثانية كتلة طرابلس – مصراتة تحت غطاء حكومة الوفاق الوطني التي يرأسها فايز السراج والمستمدة شرعيتها من قرار لمنظمة الأمم المتحدة. أما بعده الخارجي فيتمثل بصراعات النفوذ بين قوى عربية وأوروبية وخارجية منغمسة في دعم هذا الطرف أو ذاك.
من هنا سيشارك في مؤتمر برلين الذي دعت إليه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، تحت إشراف الأمم المتحدة، كل من الولايات المتحدة، فرنسا، روسيا، بريطانيا، الصين، إيطاليا، الكونغو، مصر، الإمارات العربية المتحدة، الجزائر، وتركيا إلى جانب منظمة الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي، جامعة الدول العربية ومنظمة الوحدة الأفريقية.
يبرز للعيان تغييب اليونان جارة ليبيا التي قالت بالصوت الملآن إنها لن تسمح بتمرير موافقة الاتحاد الأوروبي على اتفاقيات أنقرة مع حكومة السراج. أما الأدهى فهو تغييب تونس عن المؤتمر وعدم دعوتها بالرغم من صلتها بالملف وعلاقات الأخوة والجوار بينها وبين ليبيا، لكن اللافت أن حكومة الوفاق انبرت لتطالب بدعوة تونس وكذلك قطر من أجل ما أسمته “التوازن في الحضور العربي”. إلا أن ذلك يوضح خارطة تحالفات الطرفين الليبيين إذ أن معسكر المشير خليفة حفتر يتمتع بدعم مصري – إماراتي (وسعودي وفرنسي ولو بشكل ضمني أكثر)، ودعم روسي مستجد بالرغم من نفي موسكو ما يتردد عن دعمها للمشير حفتر بالسلاح وشركة “فاغنر” ومقاتليها، بينما يتمتع فريق السراج بتفهم إيطالي – بريطاني وبدعم قطري – تركي (خاصة بعد توقيع اتفاقية أمنية مع أنقرة ومذكرة تحديد الحدود البحرية)، وأخيرا كشفت مصادر متطابقة عن إرسال تركيا ألفي عنصر سوري للقتال (بينهم جهاديون) إلى جانب حكومة الوفاق.
وما يثير الانتباه ليس عدم اصطفاف الصين التي لا تزال تتعامل بحذر مع العديد من الملفات الدولية، بل الغموض الأميركي في تحديد موقف حاسم إن لجهة دعم المشير حفتر أو لجهة منح ضوء برتقالي للتدخل التركي.
وما الحضور الأميركي على مستوى وزير الخارجية مايك بومبيو، وإعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المشاركة في اللحظة الأخيرة، إلا الدليل على عدم قدرة الغرب على الاستمرار في قيادة الملف لأن واشنطن منذ حقبة باراك أوباما آثرت اللعب في القيادة الخلفية، بينما تضعضع الثنائي الفرنسي – البريطاني واندلع صراع النفوذ بين باريس وروما، مما منح القوى الإقليمية النافذة دورا أكبر وزاد من حدة الاشتباك الليبي في السنوات الخمس الأخيرة.
أدى ذلك لاحقا للدخول الروسي والتركي على الخط وجاءت المفاجأة مع محاولة فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان لتكرار تجربة تنسيقهما في سوريا والدعوة إلى تجميد الوضع العسكري في ليبيا وفرض هدنة، ودعوة حفتر والسراج إلى موسكو لعقد اتفاق لوقف إطلاق النار تحت إشراف موسكو وأنقرة. وتم استكمال الجهد القيصري – السلطاني بتحرك ألماني لضمان استمرار وقف إطلاق النار، مما يمكن أن يؤشر إلى تنسيق روسي – ألماني – تركي يمكن أن يثير حفيظة أكثر من طرف دولي وإقليمي.
تأتي هذه التطورات بعد استهلاك “الحروب الليبية” لعمل عدة موفدين دوليين وفي هذا السياق يمثل مؤتمر برلين الفرصة الأخيرة للموفد غسان سلامة. وبدل أن تكون ليبيا “الألدورادو” الموعود للاستثمارات وتقاسم كعكة الثروات، تتحول البلاد الشاسعة الأرجاء إلى دولة شبه فاشلة تملك واجهة متوسطية كبيرة ويهدد اهتزاز الاستقرار فيها الأمن الدولي مع خطر تمركز الإرهاب ومرور موجات الهجرة غير الشرعية. ووسط الاهتراء وتزاحم اللاعبين الخارجيين مع غياب وحدتي الموقف عربيا وأوروبيا وكسوف الدور الأفريقي وفشل محاولات الأمم المتحدة، أصبحت الساحة الليبية ساحة تصفية الحسابات من دون منازع.
إزاء عدم وجود سياسة أميركية متماسكة وعدم قدرة أوروبا على بلورة نهج دبلوماسي موحد، تمكنت موسكو من الظهور بقوة في المشهد عبر دعم غير مباشر (بالوكالة عبر أدوات حرب “البروكسي” والشركات الخاصة) وفعال للمشير حفتر، ومن ثم الدخول في المسار الدبلوماسي ولو أنها لا تمتلك نفس القاعدة الداخلية والأدوات التي وفرت لها قيادة مسار أستانة في سوريا. وهكذا تقوم موسكو بردة فعل تاريخية بعد إبعادها عن ليبيا في العام 2011، وفي هذه الساحة تبرز المصلحة الاقتصادية والنفعية بعكس الغلبة الإستراتيجية لأولوياتها في سوريا. ومن المفارقات في الجيوبوليتيك والتاريخ المعاصر أن تجد روسيا نفسها في مواجهة لاعب تتعامل معه على الساحة السورية ممثلا بتركيا أردوغان المندفعة في شرق المتوسط والتي تباطأت في سبتمبر الماضي في دعم حكومة السراج التي كادت تسقط مع اقتراب الجيش الوطني الليبي من طرابلس. وانتهز الرئيس التركي ذلك ليفرض توقيع مذكرتي الاتفاق ويفرض نفسه لاعبا للمساومة بورقة إضافية. في المقابل تجد جمهورية مصر العربية نفسها أمام تحدّ إستراتيجي يتعاظم مع تشتت أوروبي وعدم القدرة على توحيد موقف فعال مع تونس والجزائر.
ينعقد مؤتمر برلين وسط أجواء التزاحم الخارجي ومخاطر تفاقم الوضع العسكري على الأرض. إذ ثبتت على أرض الواقع صعوبة الحسم العسكري وضرورة بلورة حل سياسي متماسك يتضمن تفكيك الميليشيات وحفظ وحدة الأراضي الليبية والرفع التدريجي للأيادي الخارجية المتورطة على الساحة. ومن هنا تأتي الأوراق التحضيرية للمبعوث الأممي وتفصيلها للمسارات المختلفة، مدخلا جيدا لإعلاء لغة الحوار شرط تدعيم وقف إطلاق النار ومنع استمرار التفاقم. وفي هذا الاتجاه، تبرز فكرة إرسال قوات أوروبية لمراقبة الهدنة. وهذا يتطلب تفاهمات وضمانات واستنكاف تركيا عن المزيد من التدخل.
نحن أمام ديناميكية جيوسياسية مقلقة في الملف الليبي، لكن يمكنها أن تتحول إلى منتجة في نهاية المطاف، لأن التقاعس الأميركي والأوروبي فتح الباب أمام تعدد الأقطاب واختطاف الملف من قبل موسكو وأنقرة، وربما يدفع ذلك لعدم ترك الفراغ وتحمل المسؤولية حتى لا تكون ليبيا خطرا داهما. والأهم حصول اجتماع كافة الأطراف المعنية وعلى الأقل يمكن انتزاع استقرار على المدى القصير بانتظار بلورة ملامح واضحة لحل سياسي نهائي لا بد منه ولو طالت الطريق.