قلنا إن العام 1979 كان لحظة مفصلية في تاريخ الشرق الأوسط والعالم. ولن يفهم أحد، بالتأكيد، ما وقع من تحوّلات، من عيار استثنائي وكبير، على امتداد عقود تلت وحتى اليوم، دون عودة لا غنى عنها إلى اللحظة المعنية. وقد ذكرنا، في السياق، عدداً من الأحداث على رأسها الثورة الإيرانية، التي نتوقّف عندها اليوم.
تنتمي الثورة الإيرانية ـ التي اندلعت في شتاء 1977، وتعاظمت ككرة عملاقة من اللهب على امتداد العام 1978، وانتصرت ما بين كانون الثاني وشباط 1979 ـ إلى نموذج الثورات الكبرى في القرن العشرين. ويمكن، بالقياس، ومن حيث الصدى والتداعيات الاستراتيجية، وضعها في مرتبة واحدة مع ثورة البلاشفة في العام 1917. والثورة الجزائرية 1954، أبرز ثورات التحرر القومي في المستعمرات، وحرب التحرير الفيتنامية المجيدة من ديان بيان فو 1954 وحتى سقوط سايغون 1975.
الثورة ليست شيئاً إيجابياً أو سلبياً في ذاتها، بقدر ما هي لحظة انفجار مأساوية ومؤلمة فات أوان تفاديها أو تأجيلها، ومن شأنها تحرير التاريخ، بالقوّة، من أسر المراوحة في المنطقة الرمادية. وهذا ما لا يحدث، للأسف، دون عنف، ودون صراع بين فاعلين محليين وخارجيين على ما انفتح من آفاق وتجلى كاحتمالات، ولا تكون النتائج واضحة أو مضمونة إلا بقدر ما أراد لها مَنْ صاروا صنّاع روايتها في سدة الحكم أن تكون.
لذا، كانت الثورة الإيرانية، مرئية بعيون النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، زلزالاً ترددت أصداؤه في كل مكان. ولستُ، هنا، بصدد رصد سماتها المحلية الاجتماعية والسياسية (باستثناء تفصيل هام) بل رصد موجاتها الارتدادية ودلالتها في الإقليم والعالم. فقد جاءت بعد مفاجأة مُروّعة، من عيار غير مسبوق وثقيل، هي زيارة السادات إلى القدس، بأقل من عامين. وبعد سقوط سايغون، وهرب الأميركيين عن سطح السفارة بأربعة أعوام. وفي الحدثين ما يمكّن المراهنين على الحركة الصاعدة للتاريخ من القول إنه “يكسر ويجبر” في آن.
ولو كنت “حياً في ذلك الصباح”، في كل الحواضر العربية، لأدركت معنى هذا كله. وصل ياسر عرفات إلى طهران، ضيفاً على الخميني، بعد انتصار الثورة بأيام قليلة، وافتتح المبنى الذي كان سفارة لإسرائيل، وصار بعد الثورة سفارة لفلسطين. واكتشف العالم، الذي لم يكن قد أفاق من الصدمة بعد، أن عدداً من الثوريين الإيرانيين، الذين استقبلوا عرفات، سبق لهم العيش في صفوف ومعسكرات فصائل منظمة التحرير، وقد صاروا أصحاب شأن في النظام الجديد. (الصحيح أن جانباً من الفضل يعود إلى خليل الوزير، “أبو جهاد”).
ولو كنت “حياً في ذلك الصباح” في بيروت لرأيت ملصقات فتح والشعبية وقد زيّنتها صور عرفات وجورج حبش إلى جانب صورة الخميني (وملصقات فصائل الحركة الوطنية اللبنانية) احتفاء بالثورة الإيرانية، التي غيّرت المعادلة، “وقلبت ميزان القوى في الشرق الأوسط” وهذا كله كان صحيحاً بالنظر إلى علاقة ايران الشاه بإسرائيل، ومركزيتها في استراتيجية أميركا الشرق أوسطية، وفي حسابات وموازين القوى في الحرب الباردة.
في حينها، لم يكن جناح المحافظين، واليمين الديني، قد تمكّن بعد من الاستيلاء على الثورة لإنشاء دولة دينية. وبهذا نصل إلى التفصيل الهام. فثمة، هنا، مسألة ملتبسة تستحق التوضيح، أعني عدم التمييز بين لاهوت التحرير عشيّة الثورة، وفي أيامها الأولى، ولاهوت دولة الولي الفقيه الثيوقراطية في وقت لاحق.
ظهر لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية، في سياق الحروب التي خاضها اليسار ضد اليانكي الأميركي، وميليشياته، والدكتاتوريات التابعة له. انخرط في تلك الحروب، إلى جانب ماركسيين من مدارس مختلفة، قساوسة ورهبان من رجال الكنيسة، وتبلور على أيديهم مزيج من أفكار كاثوليكية وماركسية تحتل أفكار من نوع العدالة والمساواة، ومحاربة الطغاة والمستغِلين، ومكافحة الاستعمار، مركز القلب فيها.
وهذا ما يمكن العثور على تجلياته، بين آخرين، لدى مفكّر من وزن علي شريعتي (مات قبل انتصار الثورة بعامين، ويُعتقد أن مخابرات الشاه قتلته) الأب الروحي للثورة الإيرانية في نظر البعض، الذي استمد أهميته السياسية والأيديولوجية، من بلورة لاهوت للتحرير على غرار ما شهدت أميركا اللاتينية، وقد مزج بين عناصر راديكالية في الميراث الديني الشيعي، وماركسية العالم الثالث.
في سياق كهذا، ظهرت منظمات كفدائيي خلق، ومجاهدي خلق، مزجت بين عناصر دينية وماركسية، وكانت في طليعة المعارضة المسلّحة لنظام الشاه، وأخذت على عاتقها إسقاطه، إلى جانب قوى قومية ويسارية مختلفة. وثمة، أيضاً، حقيقة أن تجربة تعزيز المضامين الاجتماعية للمسألة الوطنية، تعود إلى ثأر قديم مع نظام الشاه وحماته الغربيين، إلى العام 1953، الذي اُسقط فيه رئيس الوزراء محمد مصدّق بمؤامرة دبرتها المخابرات البريطانية والأميركية. كان مصدّق وطنياً وكل “جريمته” محاولة تأميم النفط، واستعادة سيادة الدولة على مواردها.
بمعنى أكثر مباشرة، نفترض أن السمات الدينية للثورة الإيرانية في أيامها الأولى كانت “حضارية وثقافية” ولم تكن إيمانية، بالضرورة. هذا التعبير مُستعار، مع تحوير طفيف، من منير شفيق، أحد كبار الوطنيين، والمثقفين البارزين في المشهدين الفلسطيني والعربي، الذين انتقلوا بعد الثورة الإيرانية من الماركسية إلى “الإسلام”. يقول في مذكراته (من جمر إلى جمر) إن عملية الانتقال تمت، في مراحلها الأولى، لأسباب “حضارية وثقافية”، ولم تكن إيمانية بالضرورة.
من شأن هذه الفرضية، كما أعتقد، تفسير لاهوت التحرير عند علي شريعتي، وحركة المعارضة الثورية الإيرانية عشيّة الثورة، وفي مراحلها الأولى، قبل استيلاء المحافظين واليمين الديني على مقاليد السلطة، وتصفية المعارضين ولاهوت التحرير. فاصل ونواصل.