لم يتم بَعْد الوفاء بالتعهد الذي قطعته جميع الدول تقريباً في أعقاب الحرب العالمية الثانية بأن الهولوكوست “لن تتكرر أبداً”.
غادرتُ القاهرة مؤخراً برفقة فريق من “متحف الهولوكوست التذكاري الأمريكي” (“متحف ذكرى الهولوكوست في الولايات المتحدة”) بعد عقد مجموعة من الأنشطة بمناسبة ذكرى المحرقة في المنطقة. وعُقِدت هذه الفعاليات مع شركاء إماراتيين ومصريين في إطار اليوم الرسمي لإحياء ذكرى الهولوكوست الذي حدّدته الأمم المتحدة.
وفي إحدى المناسبات التي تم تنظيمها بالاشتراك مع جمعية “قطرة اللبن” المصرية، توجهت روث كوهين، السيدة النشطة البالغة من العمر 92 عاماً والتي نجت من معسكر الموت “أوشفيتز”، إلى مجموعة من 40 طالباً مصرياً في “كنيس شارع عدلي” التاريخي راويةً لهم قصتها، قصة الشجاعة والصمود والأمل. وفي مناسبة أخرى اشتركت في تقديمها السفارتان الأمريكية والألمانية، انضم إلى كوهين الطبيب المصري الشهير الدكتور ناصر قُطبي الذي أخبر الجمهور قصّة ملهمة عن عمّه الدكتور محمد حلمي، العربي الوحيد المعترف به رسمياً بأنه خاطر بحياته لإنقاذ اليهود خلال المحرقة.
وجاءت هذه المناسبات في مصر بعد مناسبتين أقيمتا في الإمارات العربية المتحدة، الأولى في أبوظبي حيث استضاف وزير الثقافة الحدث السنوي الثاني لإحياء ذكرى الهولوكوست في الإمارات مع طلاب من جامعة زايد، والثانية في دبي حيث روت كوهين قصتها لأفراد من أعضاء الجالية اليهودية الصغيرة بل المتنامية في مأدبة عشاء احتفالية ليل السبت في أحد الفنادق البارزة.
وفي الواقع، إنها الأحداث الأخيرة في أكثر من عشرة أعوام من الجهود التي بذلها المتحف لبناء شراكات عبر الشرق الأوسط تتيح للمجتمعات العربية المحلية المشاركة في مناقشة الدروس ذات الصلة المستخلصة من الهولوكوست. لقد عمل المتحف من المغرب إلى المملكة العربية السعودية مع باحثين وخبراء وصحفيين ومسؤولين حكوميين وقادة من المجتمع المدني لضمان مشاركة العرب في الحوار العالمي النشط حول استمرار أهمية إحدى أكبر الجرائم في التاريخ.
ما الأهمية من ذلك؟ لماذا يجب على العرب أن يهتموا اليوم بالأحداث الفظيعة التي حدثت منذ زمن بعيد في مكان بعيد؟ إنه سؤال منطقي يطرحه الآباء والمعلمون أنفسهم في ضوء الإعلانات التي تفيد بأن الإمارات والمغرب يستعدان الآن لإدراج مناقشة المحرقة وغيرها من الإبادات الجماعية الأخرى في مناهجهم التعليمية.
الإجابة على هذا السؤال بسيطة وعميقة في آن واحد. في رأيي، أن على العرب أن يتعرفوا على المحرقة التي أعدّتها ألمانيا النازية لإبادة الشعب اليهودي وأدت إلى مقتل 6 ملايين من الأبرياء، بينهم 1.5 مليون طفل، لأن الدروس المستفادة منها تنطبق على جميع الشعوب. نذكر هنا ثلاثة منها.
أولاً، إذا كان بإمكان إحدى دول العالم الأكثر تقدماً وثقافة وتطوراً، بلاد بيتهوفن وغوته، ارتكاب إبادة جماعية واسعة النطاق، عندئد يمكن لأي مجتمع أن يفقد سيطرته ويستبدل القانون والأخلاق بالكراهية والعنف الطائش. إنه تذكير بأن كل مجتمع وكل ثقافة وكل دولة تحتاج إلى حواجز قوية تحميها دائماً من الوقوع في الهاوية كما حصل مع ألمانيا وشركائها الفاشيين قبل أقل من مائة عام.
ثانياً، لم تحدث محرقة الهولوكوست بين عشية وضحاها. فما انتهى بجريمة قتل منظّمة في “أوشفيتز” كان قد بدأ قبل أعوام من حدوثها عندما كان السياسيون والمحررون وقادة المجتمع المدني يحمّلون اليهود مسؤولية المشاكل الاقتصادية الخطيرة التي كانت تعاني منها ألمانيا. وأعقب ذلك القوانين التمييزية والطرد من المدارس ومصادرة الأملاك والترحيل إلى معسكرات العمل… سيل من الكراهية لم يحرك شعب ألمانيا الصالح ولا الشعوب الطيبة في الدول “المتحضرة” الأخرى للتدخل جماعياً في مرحلة ما والصراخ (بصوت واحد) “توقفوا”.
واعتبر النازيون أن السكوت علامة رضا فانتقلوا من التحيز، إلى الاضطهاد ثم إلى القتل. ومع التزام الغالبية العظمى بالصمت، تعرض الملايين لإطلاق النار وإلقاء جثثهم في مقابر جماعية، وتجويعهم في الأحياء اليهودية، وتشغيلهم حتى الموت في معسكرات العمل، والإبادة في غرف الغاز. وهذا تذكير بضرورة رفع الصوت في وقت مبكر، في كل مرة تعالج فيها المجتمعات المشاكل الاجتماعية والاقتصادية الصعبة بالكراهية العنصرية أو الدينية أو العرقية. فالهولوكوست خير دليل على أن الانتظار قد يكون مميتاً.
ثالثاً، ربما كانت المحرقة لحظة فريدة من حيث فداحة الشر النازي وسفالته، إلا أنها وللأسف ليست فريدة من حيث الكراهية العمياء التي أدت إلى فظائع جماعية. فقد تمت صياغة عبارة جديدة مستمدة من الهولوكوست وهي “إبادة جماعية”، أي محاولة هادفة لإبادة شعب، لوصف فكرة شنيعة جداً لدرجة أنه تم وضع قانون دولي خاص لمنع حدوثها لشعوب أخرى في مناطق أخرى من العالم. ولكن للأسف أثبت الشر حتى الآن قدرته على الصمود، كما يشهد على ذلك المعذبون من شعبي التوتسي والروهينجا وغيرهم.
لقد شهد العالم العربي نفسه عمليات القتل بالغاز للأكراد في حلبجة وإحراق قرى دارفور وحملة تنظيم “الدولة الإسلامية” العديمة الرحمة لإبادة الرجال الإيزيديين واستعباد نسائهم. وهذا يعني أنه لم يتم الوفاء بالالتزام الذي تعهدت به جميع الدول تقريباً عندما انكشفت أهوال المحرقة بالكامل، وهو وعد بأن الهولوكوست “لن يتكرر أبداً”. ولذلك من الضروري أن يتعرف العرب على المحرقة كي يَنْضموا إلى بقية العالم في الجهود المبذولة للوفاء بهذا الوعد الكبير.
ولكن، كما يقول العديد من العرب، فإن الأزمات الأخرى الأقرب إلى الوطن تتطلب اهتمامنا بشكل ملحّ، إذ يعاني ملايين العرب من سوريا إلى اليمن من أهوال تفوق الوصف، وثمة دول انهارت من ليبيا الى لبنان والفوضى سائدة. كما أن قائمة ضحايا الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الذي مضى عليه الآن ما يقرب من قرن من الزمان، لا تزال تتزايد. كل هذا صحيح ودقيق ويتطلب التصرف، ولكن لا شيء من ذلك يعفي العرب من مسؤولياتهم كمواطنين في العالم. ثمة ساعات كافية في اليوم، وأيام كافية في التقويم المدرسي، لمعالجة قضايا الشرق الأوسط والعالم على حد سواء، أي القضايا الإنسانية التي تستدعي اهتمامنا الجماعي.
لقد استمرَّيتُ على مدار العشرين عاماً الماضية، بشكل مستقل ومع “متحف ذكرى الهولوكوست في الولايات المتحدة”، بالسفر عبر دول الشرق الأوسط لتوفير الفرص للعرب للانضمام إلى الحملة العالمية لمواجهة الكراهية العرقية أو الدينية أو العنصرية من خلال التعرف على المحرقة والإبادات الجماعية التي حدثت منذ ذلك الحين. لقد انتقلتُ من عاصمة عربية إلى أخرى للاستماع إلى الشباب والقادة رفيعي المستوى والمشاركة بشكل صريح ومباشر في قضاياهم واهتماماتهم.
وعلى الرغم من أن الصور الدموية تعود غالباً إلى الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، إلّا إنني أُذكرهم بأن القتال بين الإسرائيليين والفلسطينيين هو صراع سياسي في جوهره. أُذكرهم أيضاً بأمر يعرفه معظم الناس ولكن نادراً ما يتحدثون عنه، ألا وهو أنه على الرغم من الواقع الحالي الكئيب، إلا أنه صراع يمكن للقادة تسويته في النهاية من خلال حل سياسي. أما الإبادة الجماعية، أي المصير الذي أودى بحياة مئات الآلاف في الأراضي العربية، فهي شيء مختلف تماماً، إنها جريمة قتل عبثية غير منطقية ولدت من كراهية عبثية غير منطقية. ولذلك يجب ألا نخلط بين الأمرين.
ولحسن الحظ، تتزايد أعداد العرب الذين يتفقون مع هذا الرأي. فالشركاء من المحيط الأطلسي إلى الخليج يعملون معنا لتقديم مناسبات إحياء ذكرى الهولوكوست، والشباب يقرأون كتباً تتناول موضوع المحرقة ويشاهدون أفلاماً عن الهولوكوست ويتصفحون الإنترنت ليطلعوا على تاريخ المحرقة، وهذا بالنتيجة يدفعهم أكثر فأكثر إلى التساؤل عن الكراهية العنصرية أو العرقية أو الدينية التي يرونها حولهم. يفعلون ذلك من دون التضحية بالتزامهم تجاه القضايا الأخرى التي يدافعون عنها، فقد أدركوا أن واحدة لا تقلل من أهمية الأخرى.
آمل أن تصبح وجهة النظر هذه شائعة في النهاية عبر المجتمعات العربية. وحتى ذلك الحين، سنواصل نحن وشركاؤنا المحليون عقد هذه الاجتماعات الخاصة في مدن عبر العالم العربي وإتاحة المزيد من الفرص أمام العرب للانضمام إلى الحملة العالمية بأن ذلك “لن يتكرر أبداً”.
روبرت ساتلوف هو المدير التنفيذي لـ “معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى” ومؤلف كتاب “من بين الصالحين: قصص ضائعة عن تأثير الهولوكوست (المحرقة) في الأراضي العربية”. وتم نشر هذه المقالة في الأصل على موقع “عرب نيوز“.