اندلعت ثورة “١٧ تشرين” وشملت جميع الطوائف والفئات العمريّة، ولم يسلم أي من الأحزاب من الإنتقادات الشعبويّة، كدلالةٍ على إعتراض المواطنين على النّظام الساري بكامله، ولكن!
في أولى أيام الثورة، إشتعل الشارع الشيعي بوجه حزب الله وحركة أمل، إلّا أنّه قد تمّ ضبطه ليعود وينطفئ بسرعة ما عدا القلّة من النّخب الشيعيّة، أو ما قد يُقال عنهم “إنتحاريّون”، وهو الأمر الّذي أثار دهشة اللّبنانيّين وثبّط من بعض عزائمهم إزاء المنظومة الحاكمة والوضع الإقتصادي المتردّي، لما له من أصولٍ جوهريّة، تعود لأسبابٍ ماضية إمتدّت إلى اليوم وتطوّرت…
ترجع أسباب تردّد الشّارع الشيعي، على الرّغم من الجمر الّذي هو تحت الرماد، لفروع عديدة، منها الدّيني العقائدي، ومنها القهري والقسري، القديم والحالي، ومنها المتلازمتين، المؤامرة وستوكهولم، غير المنفصلتين عن حياة الشيعي اليوميّة …
قام حزب الله، المسيطر على الطائفة الشيعية والبلد، على عقيدة قويّة جدّاً، وعمل على تثبيتها بشكل يومي ودوري، ممّا نمّى العازل بين الشيعة وبين بقيّة النّاس، وجعل إندماجهم بالمجتمع وتقبّلهم لفكرة الدّولة صعباً جدّاً، ومن المهمّات الّتي لا يمكن إيكالها سوى للعارفين بهذه الشيفرة والعازمين على تفكيكها …
مُذ أن يولد الطّفل شيعيّاً، تبدأ التعبئة والتنشئة العقائدية-الحزبيّة فيه، فيُربط بزمنين، هما، ملحمة « الحسين » الخالية بعد أن تُجرَّد من فلسفياتها في مقارعة الظلم، وبـ« المهدي المنتظر » المصوّر لهم، وعند كلّ جيل، أنّه على مشارف الظّهور، وهم يمهّدون له، وهي مشكلة موجودة في الأهل أساساً. فلا يعرف من حين أن يفتح عينيه، سوى الثقافة الدينيّة الشيعيّة، والتاريخ المبرمج ما بعد عام ١٩٨٢، بوَصلات مدروسة، ترمي لتقديس “خامنئي” و”نصر الله” بصورة أولى، فيصبح إنتقادهم أمام إبن الخامسة من العمر، مدعاةً للبكاء وتأليب المشاعر وكره الناقد، بل تدفعه محبّته للإستغناء عن المغريات التي قدّموها له، دون أن يتأثّر بفقدانها …
تستقطب « كشافة المهدي » حوالي التسعين بالمئة من أطفال الشيعة، وتبدأ ببثّ أفكار حزب الله في عقولهم -بمساعدة المدارس الموجودة في مناطقهم بكثافة المنتهجة ذات النهج- وتُهطل الدروس الدينية في مخيماتهم، وتحبّب العمل العسكري لديهم ممّا يدفعهم لترك مسيرتهم الدراسية والإنتساب لصفوف حزب الله، مع بقائهم في كشافة المهدي…
تجدر الإشارة إلى أنّ الإنتساب لحزب الله يكون في الغالب بعمر الخامسة عشر عاماً، وهو ما يقع ضحيّته عموم شباب الشيعة، بعاملٍ معاون هو قلّة فرص العمل، وهيمنة الحزب على مفاصل القرار في كافة مؤسسات الدّولة، فيخضع لدورات تثقيفيّة لها طابعها المؤدلج حزباللهيّاً، ليتبعها دخول التراتبيّات مع التحفيز بالولوج لمسؤوليّات في الحزب، ويكون أوّل شرط عدم الإختلاط مع أبناء الطوائف والأديان الأخرى أو الذهاب لمناطقهم…
مع الثقافة الدينية، تأخذ الثقافة العسكرية طابعها، بأوّل دورة مدّتها واحداً وأربعين يوماً، ليخسر معظم المنخرطين فيها شغفهم في إكمال علومهم، وتأكيد مبدأ “ثقافة الموت”، بعد ترسيخ مقولة “إحدى الحُسنَيَين، إمّا النصر وإمّا الشّهادة”، مع التركيز على الموت، لضمان دخول الجنّة، بعد تكريههم بالحياة وتَوثين من يعمل على إثبات ذاته فيها، بحديثين متداولين، هما، “هؤلاء جنود الله المجهولون في الأرض، المعروفون في السماء” و “ما جُمع مال إلّا من شُحّ أو حرام”، وفي تلك اللّحظة يتمّ الوصول لأعلى درجات تقديس « ولاية الفقيه » ووليّها، وكيف لا وهم موقنون من جلوسه يوميّاً مع المهدي المنتظر، دون أن ينتبهوا أنّ الروايات والوعود كانت تُفضي لظهوره في زمن الخميني وتحريرهم للقدس معاً…
في سياقٍ متّصل، تحرّر عددٌ لا بأس به من الطائفة الشيعية، وجنحوا لدراساتٍ نقضيّة لأفكارهم وقناعاتهم، وحين قالوا “لا”، تمّ ترهيبهم إمّا عبر أهليهم، أو محيطهم، وخسروا أعمالهم، ومنهم من سُجن في بيته بسطوة آبائه. ومن لم يتوقّف، خسر أصدقاءه وخرج من بلدته، وصار مهدّداً بحياته، أو بحريّته إن قبض حزب الله عليه. أو بسمعته بملفّات تُفبرَك له عبر الأجهزة الأمنية، بإيعازٍ من حزب الله دون أي خجل، وهذا ما أجبرهم على السكوت، والقبول بالمرّ، كي لا يروا الأمرّ…
نجد أنّ هناك أصواتاً شيعيّة حرّة لم تسكت، وهي النازحة من مسقط رأسها، أو المسافرة خارج لبنان، في إشارةٍ إلى وجود أمثالها في المجتمع الشيعي دون أن يُفصحوا عن آرائهم لأحد، خوفاً على أنفسهم، أو عائلاتهم. وهي ما يخافها حزب الله ويهاب أن تقوم بإنشاء حزبٍ أو تجمّعٍ شيعيٍّ لمواجهته، وهذا ما دفعه لإستحداث بطاقاتٍ تموينيّة تحمل إسم “السجاد”، يكون محور تعاملها ضمن البضائع الإيرانية والسورية والمدعومة التي يبيّض بها أمواله، إضافةً إلى البدء بعمليّات الإستشفاء في الشارع الشيعي دون مقابل، وكلّه بغية كبح جماح أي إنتفاضة في الشارع، وكسب الإستحقاقات المقبلة …
هذا مقتضبٌ عن ما يحصل لأبناء الطائفة الشيعيّة، وهذه هي الأسباب التي تمنعهم من التّمرّد، فمن يقول “لا” يخسر مأواه وبيته، وقد يصل لأن يخسر سمعته وحياته…