ينتابني إحساس بكراهية عضوية كلما وقع بصري على صورة لدونالد ترامب. يخشى العاملون في الحقلين الثقافي والسياسي، وبعض المُعلّقين على الشأن العام، عادة، التعبير عن مشاعر كهذه لأنها تقلل من ادعاء الموضوعية، ولا تبدو لائقة، فالخلاف في قضايا الشأن العام، وفي السياسة وعليها، لا يبرر الكراهية، بالمعنى الشخصي، وبهذا القدر من البغض.
الكثير من آداب السلوك مُفتعل، وثمة الكثير من الكذب بدعوى الحياد والموضوعية. والواقع أن صعود ترامب في أميركا، ونجاحه في الاستيلاء على قاعدة شعبية واسعة، نجما عن تمرّده على آداب السلوك العام، والتبرؤ من دعاوى الحياد والموضوعية الزائفة. فنخبة واشنطن، في نظره، تكذب وتُمثّل أدواراً لا تنم عن حقيقتها، أما هو، كما يرى نفسه، فحقيقي وصادق، وما في قلبه على لسانه، حتى وإن مثّل وكَذب.
وطالما أن ما في قلبي أصبح على لساني، فينبغي القول إن مبرر كراهيتي العضوية لصاحب الوجه البرتقالي العابس، وربطة العنق الطويلة، والعبارات النابية، لا يُستمد من حقيقة أنه نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وانحيازه الفاضح للاحتلال الإسرائيلي. فعلى مدار ما عشنا من سنوات على هذه الأرض، ظهر كثيرون لم يكونوا أقل انحيازاً منه للاحتلال، أو أقل كراهية لشعبي، ولغيره من شعوب الأرض المقهورة. ومع ذلك، لم يكن ثمة ما يشبه هذا القدر من الكراهية.
وفي السياق نفسه، فإن الكراهية لا تعثر على ما يبررها في حقيقة أن المذكور متعدد العلاقات الغرامية، يشتري النساء وصمتهن، عديم المعرفة والأخلاق، مريض بنفسه يعبد صورته في المرآة، وتاجر “يلعب بالبيضة والحجر“. فعلى مدار سنوات طويلة، أيضاً، ظهر وصعد أمثاله إلى سدة الحكم في مناطق مختلفة من العالم، وعوملوا من جانب آخرين كعباقرة ومخلّصين، ونالوا الكثير من الثناء.
لا. مبعث الكراهية ينتمي إلى سياق مختلف تماماً. ولنقل إن الكراهية ردة فعل طبيعية إزاء ظاهرة لا تقتصر على، ولا تنحصر، في شخص ترامب، الذي لا يمثل في حالة كهذه أكثر من وسيلة إيضاح. أما الظاهرة المعنية، وقبل الدخول في تفاصيلها، فتمثل تهديداً لأمن وسلام العالم، كما عرفناه. لم يكن عالماً مثالياً تماماً، وارتكبت فيه الكثير من الجرائم والآثام، ولكنه كان مسكوناً بقيم من نوع المساواة، والعدالة، والحرية، وحقوق الإنسان، وأشياء كثيرة يمكن أن يعتدل بفضلها الميزان.
وفي التفاصيل أن كل هذه الأشياء معرّضة للخطر، وأن البشرية تدخل، اليوم، زمن أو مرحلة ما بعد الحقيقة. فالحقيقة لم تعد ما ينجم عن تحكيم العقل والمنطق، استناداً إلى قيم كونية تتسم بالثبات النسبي، ومعايير مجرّبة تضبطها القوانين، بل هي ما ينجم عن كفاءة الدعاية، ومهارة التلاعب بالمعطيات، وإمكانية تحويل الأكاذيب إلى حقائق.
وهذا ممكن، فعلاً، بفضل الثورة التكنولوجية، والتقنيات الحديثة، التي لن تغيّر طبيعة المجتمعات، وأنظمة الحكم، وهوية وعلاقات المجتمعات والأفراد وحسب، بل وستغيّر، أيضاً، الطبيعة الفيزيائية، والملامح التقليدية، للإنسان كما استقرت منذ ملايين السنين. وكل ما عرفناه كبشر، واستخلصناه من تجارب مؤلمة ومُكلفة، ودروس تقبل الاستلهام والتعميم، مُعرّض للانهيار.
بيد أن التغيير، وبهذه الطريقة، حتى وإن كان غير مسبوق، يمكن إخضاعه لضوابط وقوانين تحد من آثاره الكارثية، وتحمي الإنسان من بربرية جديدة فقيرة القيم، والهوية، عديمة الأخلاق، مسلّحة بالتكنولوجيا، عدوانية، وانعزالية، مريضة بالكراهية، وعبادة السوق. في السينما الأميركية مئات الأفلام عن عالم كهذا. وفي الأدب ما لا يحصى من تجلياته القيامية.
البربرية الجديدة لا يصنعها شخص بعينه، لا تولد دفعة واحدة، ولا تعرف أو تُعرِّف نفسها كظاهرة متوحّشة بل ربما يعتقد الكثير من الصاعدين بها، وعليها، أنهم أصحاب رسالة نبيلة تماماً، كما فكر واعتقد ساسة ومصلحون ومثقفون عرب ومسلمون، على مدار عقود طويلة مضت، في ضرورة الاحتماء بالأصول حماية “للأمة“ من خطر داهم، وفي صميم مشروع النجاة، دون إدراك للعواقب، وضعوا نطفة الدواعش.
لا يشكو الناس، في مناطق مختلفة من العالم، ندرة الساسة، والمصلحين، والمثقفين، الذين يريدون حماية هذه “الأمة“، أو تلك من خطر داهم. ويضع هؤلاء، في عودتهم إلى الأصول، نطفاً لا مجازفة في القول إنها ستتخلّق، ذات يوم، في صورة الوحش. ولنتذكّر أن هذا يحدث الآن، ويتفاعل مع، وينجم عن، الثورة التكنولوجية، وأولوية الاستهلاك والسوق، وخلل وفوضى العالم، وانهيار الأيديولوجيات الكبرى، وصعود سياسات الهوية، والتحوّلات الديمغرافية، والتفاوت الطبقي الفاضح، وتحوّل نخب سائدة وحاكمة إلى مافيات في كل شيء ما عدا الاسم.
على خلفية كهذه، تجد الكراهية العضوية ما يبررها في صورة ترامب. فلو ظهر المذكور في أي مكان آخر ما عدا أميركا لما نجت كل محاولة للكلام عن بداية الاختراق من تحفّظات كثيرة. فأميركا، أحببنا أم كرهنا، ذات نفوذ واسع وكبير في، وعلى، العالم. ولو لم تكن أميركا مريضة لما تمكّن تاجر كهذا، وبمواصفات كهذه، من الصعود إلى سدة الحكم.
بمعنى آخر، حتى بعد خروجه من المشهد السياسي، لن يتمكن أحد من الكلام بثقة عن انحسار الظاهرة، ولكن نجاح الأميركيين في إقالته، ووضعه في السجن (كما أرجو) قد يؤشر إلى وجود مقاومة عنيدة. فثمة الكثير من المضادات الحيوية، في بنية النظام الأميركي، لظاهرة يمكن ألا تكون قدراً بالضرورة، ولكن بقاء هذا الشخص، وفشل المضادات، يجعلها كذلك، ويجعل النموذج الأبرز للديمقراطية الليبرالية، في العالم، أقوى معول لتقويضها لا في أميركا وحسب، بل وفي كل مكان آخر.
khaderhas1@hotmail.com
- كاتب فلسطيني