أي عملية إصلاح حقيقية في لبنان اليوم ستصطدم بحزب الله الذي يخنق لبنان، وسيحتاج الإفلات من هيمنته إلى مجهود خارق، وبخاصة أن لبنان غارق في الفساد والديون، والعالم العربي والمنطقة الخليجية بحالة غير مسبوقة من الانقسام والتفكيك.
انفجار الشارع اللبناني بهذا الاتساع والشمول لم يكن بدون سابق إنذار، إذ كانت هذه “الدرة اليتيمة” في منطقتنا، والتي تصدق عليها بحق هذه الصفة، تئن وتتلوى وتناشد ساستها والمهتمين أمام الكاميرات وعلى مختلف القنوات العربية والغربية منذ سنين، و”تعري عذاباتها”، في مجالات نقص الماء والكهرباء، وتدهور العلاج والتعليم، تستغيث على حافة الانهيار، ولا مجيب!
كان لبنان السياسي كذلك، عبر سنين وعقود، ضحية الاختلافات العربية وتوالي التيارات وتصارع المصالح، فكان بحق ساحة خفية تمارس مختلف الأنظمة العربية وغيرها فيها مغامراتها وميداناً تنتقم فيه من خصومها بمختلف الطرق، وإن دمر ذلك مصالح شعب لبنان واستقراره.
كان لبنان “رئة العرب الوحيدة” وربما لا يزال من بعض الجوانب رغم عللها وانسداداتها، وقد استكثر التسلطيون عليه ذلك، وتعاون فسدة الخارج مع متمصلحي الداخل، وتقلبت أحوال البلاد من التطرف القومي إلى صراعات ما كان يعتبره الفلسطينيون والعرب “مقاومة العدو”، إلى تضاعف مختلف المشاكل الاقتصادية والخدماتية، وما إن ضعف نفوذ العرب حتى برزت إيران وحرسها الثوري وأجهزتها وأموالها، من خلال “حزب الله” وفرض “ولاية الفقيه” والميليشيات، بعد أن أخضع هذا الحزب، بكل ما يمكن من مال ونفوذ، القوى والشخصيات الشيعية الأقل أنصاراً وحولاً واستبد بغيرها.
كيف يمكن لبلد له تراث لبنان العريق، والذي أعطى العالم العربي خاصة كل هذا الفكر والفن والثقافة والأدب، والمصارف ورجال الاقتصاد والاستثمار داخل لبنان وكل مكان، أن يكون اليوم مديناً بما يقارب المئة مليار دولار؟ إنه بالطبع كما يعرف الجميع الفساد واللصوصية و”اغتنام الفرص”، والسكوت عن الفساد والانحراف والطائفية، وترحيل عمل اليوم إلى الغد، والتخلص من النفايات بتكديس الأكياس، ودس ما لا يمكن رميه تحت السجاد، ومصافحة اليد التي لا تستيطع عضها أو بترها!
كان لبنان رغم كل الظروف بلد الثقافة وموئل الحضارة والأبجدية، وعندما عجز اللبناني “جورج زريق”، شهيد فشل التعليم في العالم العربي، عن تسديد أقساط تعليم ابنته أضرم بنفسه النار منتحراً في باحة المدرسة في فبراير 2019… مغادراً لبنان والدنيا.
النقيب السابق للمعلمين في لبنان الذي كان ملماً بكل تفاصيل وظروف والد الفتاة الطالبة، قال لـ”الشرق الأوسط” إن “الرجل لم ينتحر فقط بسبب عجزه عن تسديد قسط ابنته في المدرسة، فابنته معفاة من القسط، وهو يدفع نحو 37 دولارا فقط شهريا لمصاريف إضافية، لكنه خسر عمله وكذلك زوجته، وبات عاجزا عن تسديد هذا المبلغ البسيط، بالتالي القضية ليست قضية إفادة مدرسية كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، ولكن قضية وطن يسير بأبنائه إلى الهاوية”. (10/ 2/ 2019).
يحرص اللبناني كما تنصحه أمثاله الشعبية بأن يمر بالآخرين بأحسن الثياب وإن كان جائعاً، وربما فضل اليوم كذلك الإنفاق بما يستطيع من بقايا ماله على تلفونه النقال، وقد لا يكترث بعلاج أسنانه لكنه لا يهمل تعليم أطفاله، لعل زمانهم أرحم.
يقول الاقتصاديون إن النسبة المئوية التي ينفقها اللبنانيون على أقساط تعليم أبنائهم هي الأعلى بين المتطلبات الحياتية التي تحتاجها العائلة بعد الاستشفاء، حيث يتراوح القسط المدرسي بين ثلاثة آلاف دولار وأكثر من عشرة آلاف في بعض المدارس “المحترمة”. الطائفية اللبنانية “مترسخة” أو متسربة حتى إلى رسوم الدراسة فيما يبدو والضرائب، فالقوانين هناك تحمي المدارس التابعة للطوائف وتعفيها من الضرائب، غير أن هذه الحماية، يشتكي اللبنانيون، لا تنعكس كما ينبغي على أقساط التعليم، ولا تؤدي إلى ارتفاع رواتب المعلمين.
في فبراير الماضي نفسه، بدأ لبناني بائس يدعى “فادي إبراهيم” إضرابه عن شرب الماء أو غيره، وجلس في خيمة بلاستيكية رغم البرد والمطر على مدخل طرابلس “عروس الشمال”، بعد أن خاط فمه بنفسه تأكيداً لصيامه عن الطعام الذي كان قد مضى عليه أكثر من عشرة أيام. وقالت الصحف إن الرجل كان قد طالب بإسقاط الجنسية اللبنانية عنه، لأنها “لم تعد تسعفه في شيء، لعل دولة تحترم الإنسان تمن عليه بجنسيتها”. “لفادي”، أضافت الصحيفة ولدان أحدهما في الخامسة عشرة والآخر في السابعة عشرة… لا يراهما.
نقلت الصحف في اليوم نفسه في فبراير تصريحاً لرئيس الوزراء اللبناني “سعد الحريري”، إن الاقتصاد معرض للانهيار، وإن الحكومة اللبنانية “لا بد أن تجري عملية جراحية من أجل استئصال الفساد ومن أجل إصلاح القوانين”.
الكاتبة اللبنانية “سوسن الأعرج” التي ذكّرت القراء بعد انتحار “زريق” بضعف اللبناني أمام احتمال حرمان أولاده من التعليم قالت إن اللبنانيين يدفعون سنوياً ما يزيد على ثلاثة مليارات دولار للمؤسسات التعليمية الخاصة، وقد لاحظت الكاتبة في تأملها للحالة الآسيوية، تشابهاً كبيراً بين تعقيدات سنغافورة “التي كانت مجرد جزيرة لصيادين ثم مستعمرة وموضع أطماع جارتها الماليزية، وبين لبنان الباحث عن طريق النجاة وسط جهنم النيران المشتعلة حوله”.
لا أحد على الأرجح، مهما سبح مع الأماني، يرى أن هذه الانتفاضة اللبنانية الكبرى، نهاية حقبة الفساد والآلام، ولكنها بلا شك نقطة تحول وأكبر من مجرد جرس إنذار بشأن ضرورة الإسراع، بحل شامل لمشاكل لبنان المختلفة.
استوقفني حقاً تهديد زعيم “حزب الله” للشعب اللبناني، بأن القائد نصر الله، إن شاء، سينزل حزبه إلى الشارع ويغرق كل الساحات، والذي قيل للناس إن حزب الله أداة لتخويف إسرائيل لا لبنان. وإسرائيل هي التي قال السيد نصر الله في أعقاب الحرب معها عام 2006 لو كنت أعرف أن النتيجة ستكون هكذا ما دخلتها، ولعل ما أزعجه حقاً بداية يقظة الشيعة في لبنان وبروز وعيهم الوطني وعدم خضوعهم لولاية الفقيه، بعد أن تم تفجير التركيبة الطائفية والإخلال بكل التوازنات.
إن أية عملية إصلاح حقيقية في لبنان اليوم ستصطدم بحزب الله الذي يخنق لبنان، وسيحتاج الإفلات من هيمنته إلى مجهود خارق، وبخاصة أن لبنان غارق في الفساد والديون، والعالم العربي والمنطقة الخليجية بحالة غير مسبوقة من الانقسام والتفكيك، وإذا كانت الولايات المتحدة بصدد “الانسحاب الكامل من الشرق الأوسط” كما يقال، فإن انتشال لبنان ودول المنطقة من مخاطر “حزب الله” وحتى “القاعدة” و”داعش” يصبح مستحيلا.