كورونا جاء ليتحدى ما نحن عليه بكليتنا. لأول مرة نخاف معا، نقلق ونحرص ونتابع في نفس الوقت، نتخذ التدابير الوقائية كأننا جسم واحد. ومهما اختلف جنسنا أو لوننا أو جنسيتنا أو ثقافتنا نعزل أنفسنا. كأننا أصبحنا أسرى مرايا، ننظر ونشاهد فقط، ولكنها مرايا متعاكسة تشعرنا بالاتصال.
لم نلمس تسارع العولمة كما بينّها كورونا الذي انتشر متسللا بصمت رابطا الملايين قافزا فوق الحدود والحواجز. فأعادنا الى الواقع: هذه هي العولمة في أعلى درجاتها. نحن على مركب واحد ومصيرنا واحد. جسم مترابط مهما اختلفت أعضاؤه بعضها عن بعض. في هذا عالم يمكن لأي حدث مهما كان نوعه، جيدا أم سيئا، أن يتخذ بعدا عالميا.
جاء كورونا لعيدنا إلى الذات كي نواجه أنفسنا بعد أن بدا أننا سادة الكون بلا منازع ويقول: لستم سادة العالم. ولا نحن سادة أنفسنا.
تحدى الوباء الثقة التي وضعناها بقدرة الطب الكلية حمايتنا من مثل هذه الأخطار. الامتحان اليوم أننا أمام هشاشة مستجدة للأفراد والدول والحكومات ولفكرة التقدم نفسها. في وقت كان فيه العمالقة الرقميون يبحثون عن الخلود.
وإذا كانت هذه الأزمة الصحية ستترجم في إظهار ضعف الديمقراطيات ونقص التنسيق بينها وعجز مؤسساتها عن مواجهة الوباء بفعالية، وستدعم سلطات القمع، على غرار الصين، ومثيلاتها، التي استفادت من الأزمة لفرض قوانين الطوارئ أو لتقوية أدوات الرقابة والضبط للجمهور؛ فإن ذلك استهوى البعض، ويكفي متابعة تعليقات الجمهور على وسائل الاتصال.
وهذه الأدوات المستخدمة تمس بعمق وبشكل استثنائي خصوصية المواطنين وتسمح بمراقبتهم في جميع تحركاتهم واتصالاتهم حتى في الظروف التي لا يوجد فيها شكوك حول الأوبئة أو ما يمس بأمن الدولة. فمثل هذه الدول تستسهل ضرب القوانين، وخصوصا قوانين حماية الحريات الشخصية، عرض الحائط.
يعيد كورونا صياغة العادات الثقافية، بحيث أصبح ليس الوداع وحده “من غير قُبَل” لكن الاستقبال أيضا. الأمر الذي أثر على كيفية تفاعل كبار القادة السياسيين، وكسر جميع البروتوكلات.
في مصر برز شعار جديد على شكل أغنية: “مش هنسلّم.. مش هنبوس.. مش هننشر الفيروس”، وفي إيران “لن أصافحك لأنني أحبك”. ما يذكرني بكتاب للمعالج النفسي موني القائم: “إذا كنت تحبني، لا تحبني”. شعارنا الآن “لا تقترب مني. لا تلمسني. لا تصافحني. لا تعانقني. لا تقبلني”. ابقَ بعيدا عني، لكن ابقَ على اتصال.
هذه “اللاءات” باتت تتردد مؤخرا على ألسنة الناس، والسبب ليس ازدياد معدل البغض والكراهية بينهم، بل حالة الهلع التي تتفشى يوما بعد يوم. أدخل فيروس كورونا سلوكيات جديدة في كافة المجتمعات للحد من انتشاره وقطع السلسلة؛ فأوقفوا السلام بالأيدي، مستعيضين عنها بضرب الأكواع والسلام بالأقدام، أو حتى استلهام طرق هندية لإلقاء التحية عن بعد. وبرزت ردود أفعال مختلفة على صلة بواقع الشعوب سياسيا وثقافيا كظاهرة تعيين وقت موعد للخروج إلى البلكونات والغناء والرقص أو التصفيق أو الهتافات.
في العالم العربي، الذي لا يستفيد من الدروس، تراوحت ردود الفعل من حالة الإنكار إلى الشعور بالخوف إلى فرضية المؤامرة كالعادة. وكما أعاقت المصالح الأيديولوجية والدينية والاقتصادية إيران في الإفصاح عن تفشّي وباء كورونا، حذت بعض الدول العربية حذوها. وبالمثل، تغلّبت المصالح السياسية والاقتصادية والدينية على الصحة العامة في تأخير اتخاذ تدابير مثل الحظر على السفر، والحجر الصحي، وأشكال أخرى من الاحتياطات الصحية العامة.
دون أن نغفل أن العنف المسلح والحروب، أضعفت البنى التحتية الصحية في العديد من البلدان العربية بالإضافة إلى مشكلة اللاجئين التي فاقمت التحديات التي تعترضها. فانكشف الضعف الحكومي، الذي يتجسّد من خلال انتهاج سياسات مبهمة وغير متّسقة. يُضاف إلى ذلك غياب الشفافية وآليات إدارة الأزمات، ناهيك عن اهتزاز الثقة لدى المواطنين بقدرة حكوماتهم على توفير الحماية لهم.
من هنا موجة النكات والتعليقات والانتقادات السياسية، التي اجتاحت عددا من البلدان. ففي أحد برامج التلفزيون المصري يجري المذيع مقابلة مع فيروس كورونا الذي يجيب على ادعاء العالم الخوف منه: “جميع المشكلات يلقونها عليّ”، احتج الفيروس. “وماذا عن الأمراض الأخرى؟ كل من يعطس أو يسعل يتهمونه بكورونا”.
في الجزائر نشر أحدهم، صورة لجرافة تعِدّ قبراً، وكتب تحتها “هذه هي تجهيزات وزارة الصحة للتعامل مع فيروس كورونا”. فكرة مشابهة نشرت في حساب تويتر لأحد المصريين جاء فيها “اكتشاف علاج للفيروس في مصر ـ التجاهل”.
ولكن هناك انتقادا شديدا وُجّه للحكومة بسبب سياسة التعتيم على التقارير المتعلقة بانتشار الفيروس. “كيف تستطيع الحكومة النفي بأن الفيروس ينتشر في الدولة في الوقت الذي نسمع فيه تقارير عن أشخاص مصابين جاؤوا من مصر؟”؛ ما جعل أحدهم يعلّق: “يظهر أن الفيروس سيكتشف في مصر فقط عندما نرى أن الرئيس السيسي يسعل ويعطس”. وآخر كتب غاضبا: “ليت الفيروس يدخل إلى البرلمان ويقضي عليهم جميعا”. وهذه المقولة ترددت في بيروت.
وفي تونس انتشرت نكتة تقول إن الفيروس دخل إلى جسم مواطن وانتحر على الفور بسبب الفقر والأمور المقلقة. وفي المغرب شرح أحدهم كيف تمنع سلطة الهجرة دخول الفيروس إلى الدولة: “الشرطي قال للزائر: هل أنت مصاب بالكورونا؟
أجاب الزائر: لا.
الشرطي: هل تقسم بذلك؟
الزائر: أقسم بالله العظيم.
الشرطي: تفضل، أهلا وسهلا”.
في العراق أيضا أصبح الفيروس منصة لانتقاد شديد يوجه للحكومة ولعجزها على علاج المرض ومنعه. “الفيروس يرفض الدخول إلى العراق بسبب الوضع الصحي المتردي فيه” وفي تغريدة أخرى. “لدينا أمراض أخرى لا علاج لها مثل سرقونا، باعونا، خطفونا، أذلونا، اعتقلونا”.
وفيروس كورونا لا ينتشر فقط بهدوء ليثير الذعر، بل يصيب الناس بداء العزلة والتشرذم وقد يتسبب بالإحباط والكآبة، خصوصا عند من اعتاد نمط العيش المتوسطي حيث تمارس الحياة في الخارج، من خلال الذهاب إلى الأماكن العامة الواسعة والمفتوحة وثقافة المقاهي والمنتديات.
من هنا نجد أن وباء كورونا استكمل ما بدأته الهزة التي أصابت لبنان منذ أن بدأت الأزمة الاقتصادية بالإعلان عن نفسها. فبدأت سيرورة القضاء على نمط عيش اللبنانيون الذي اعتاد. وقبل إقفال المقاهي والمطاعم والأندية أبوابها كان معظمها يعاني غياب رواده وبداية إفلاسه.
فكيف واجهت الحكومة الوضع المستجد؟ كما اعتدنا، الكثير من الكلام والقليل من الأفعال، وتقديم الاعتبارات السياسية على التوجيهات الصحية الضرورية، ما عرّض المواطنين لمزيد من المخاطر، سواء من خلال عدم وقف الرحلات من المناطق التي تشهد خطرا كبيرا، كما حصل مع الإيرانيين المسافرين إلى لبنان؛ أو عدم تأمين الفحوصات الطبية المجانية والتدابير الاحترازية الأخرى.
وعندما حان أوان اتخاذ تدابير الحجر لوقف سلسلة انتشار الفيروس، الوسيلة الوحيدة الفعالة لمواجهته، أعلنت التعبئة العامة التي اقتصرت على عنوانها دون المضمون، وامتنعت عن الاستعانة بقدرات الجيش البشرية واللوجستية التي تسمح له بالانتشار للمساعدة وضبط الأمور والحدود بفعالية.
وتناقلت المعلومات رفض “حزب الله” انتشار الجيش وتسلمه زمام المبادرة. وهذا ما يكشف مدى خضوع هذه الحكومة لسلطة “حزب الله” الذي صار الآمر الناهي. يقبل الحزب بصندوق النقد، على غرار ما فعلت إيران، فتعمل على طلب مساعدته، يقبل بالحجر على المواطنين فتتخذ التدابير التي تناسبه.
بدأت دول عديدة في العالم باتخاذ التدابير اللازمة لمساعدة الاقتصاد من ناحية ولمساعدة الأسر الأكثر احتياجا والتي توقفت عن العمل بسبب الوباء، فما الذي تقترحه الحكومة؟ لا شيء.
نعلم أن أعداد المتضررين من تعطل الحياة العامة التام ستتضخم مع الحجر الذي فرض، وسيرتفع أعداد من سينقطع رزقهم من العمل اليومي، وسوف يضافون إلى طابور العاطلين عن العمل الذي بلغ مؤخرا أكثر من 50 في المئة من القوى العاملة.
كيف سيعيش هؤلاء وكيف سيؤمنون تكاليف الغذاء وحليب الأطفال والدواء والطاقة وإيجار المنزل وغيرها من فواتير مضاعفة يدفعها اللبناني؟
لا خطة طوارئ ولا من يحزنون، بل العكس استغلال الوضع لتمرير قوانين وتدابير وصفقات.
ففي مثل هذه الأوقات يختفي الحس الإنساني عن البعض.
monafayad@hotmail.com