يمكن القول أن تاريخ ماليزيا السياسي، ولاسيما منذ وصول مهاتير محمد إلى السلطة عام 1981، حافل بتباين الإرادات والمواقف والتوجهات الذي نجمت عنه سلسلة من الدسائس والمؤامرات وبناء التحالفات وفضها وتغير الولاءات وترويج الإشاعات والإتهامات ضد هذا السياسي أو ذاك، وغير ذلك من الأمور التي لم تعرفها البلاد في عهد أول رؤساء حكوماتها تنكو عبدالرحمن وخلفيه تون عبدالرزاق وحسن عون.
صحيح أن المشهد العام كان يوحي بالإستقرار الذي جلب معه الإزدهار والنمو الإقتصادي على مدى العقود الماضية، لكن الصحيح أيضا أن خلفيات المشهد كانت تعج بالخلافات والمناورات والتناقضات بين رموز الحزب الحاكم نفسه وبين هؤلاء وغيرهم من الطامحين للوصول إلى مركز صناعة القرار الأول.
ولئن تجسدت إحدى أشهر صور تلك الخلافات في واقعة قيام مهاتير محمد بتلطيخ سمعة نائبه وصديقه ومرشحه لخلافته “أنور إبراهيم” والزج به في المعتقل، فإن الصور الأخرى، وهي عديدة، تبرهن على المنحى نفسه وتعززه ومنها الطريقة التي انقلب بها مهاتير على رئيس الوزراء الأسبق “نجيب رزاق” (إبن الرجل الذي أدخله حلبة السياسة) تحت شعار مكافحة الفساد والمحسوبية، ثم قيامه في عام 2018 بعقد تحالف مثير للدهشة مع غريمه اللدود أنور إبراهيم لإخراج حزب المنظمة الوطنية المتحدة للملايو(أومنو)، الذي تتلمذ مهاتير في أروقته وصعد منه إلى قيادة البلاد وحكم بإسمه 22 عاما، من السلطة. وكان من شروط هذا التحالف، الذي أطلق عليه “باكاتان هارابان” أو “تحالف الأمل“، أن يتبادل مهاتير وإبراهيم مقعد رئيس الوزراء بينهما بعد عامين على أن يكون الدور أولا لمهاتير.
وكما هو معروف، نجح الثنائي في تحقيق إنتصار مدوٍ في إنتخابات 2018، لكن ما أنْ اقترب موعد تسليم المنصب إلى إبراهيم حتى قام مهاتير بمناورة تمثلت في تقديم إستقالته فجأة يوم 24 فبراير 2020، ممنيا النفس بتكليفه مجددا والحصول على ثقة برلمانية أوسع كي يسهل عليه التملص من وعوده لإبراهيم.
إلا أن الرياح جرت بغير ما تمناه الرجل التسعيني. إذ قرر العاهل الماليزي السلطان “عبد الله رعاية الدين المصطفى بالله شاه” في 29 فبراير أن يتخلص من مهاتير وحليفه إبراهيم معا ويكلف السياسي محيي الدين ياسين بقيادة الحكومة، فقبل الأخير دون تردد، وكأنه كان ينتظر هذه الفرصة منذ أمد بعيد.
والحقيقة أن تولي ياسين السلطة هو أيضا صورة من صور التمرد والإنقلاب، وتباين الإرادات، وتناقض المواقف، وعقد التحالفات وفكها. فالأخير إنضم إلى مهاتير وإبراهيم في تحالف الأمل وشارك في مخططات الثنائي للإطاحة بحزب أومنو، باحثا عن مقعد متقدم في المشهد الماليزي بعد طول صبر وانتظار. وهو نفسه عمل تحت قيادة ثلاثة رؤساء حكومات من حزب أومنو (مهاتير محمد وعبدالله أحمد بدوي ونجيب رزاق)، وتظاهر بالولاء لهم جميعا بغض النظر عن سياساتهم وتوجهاتهم المتباينة، لكنه تمرد على نجيب رزاق علنا، رغم أنه احتل موقع الرجل الثاني في حكومته، ربما إحساسا منه أن أيام الأخير في السلطة باتت معدودة.
وهكذا شكل ياسين حكومته في مطلع مارس المنصرم على أنقاض حكومة حليفه السابق مهاتير، بتكليف من ملك البلاد المنتخب في 24 يناير 2019 خلفا للسلطان محمد الخامس الذي أسس لسابقة غير معروفة في تاريخ البلاد بإستقالته بعد زواجه من فتاة روسية شابة. وقد نجح ياسين أن يستدرج إلى تشكيلته الوزارية هذه بعضا من أعضاء حزب أومنو، وبعضا من أعضاء حزب “باس” الإسلامي (بارتي إسلام سيماليزيا)، وآخرين منشقين على تحالف الأمل، مؤكدا أنه يمتلك الغالبية في البرلمان وبالتالي سوف يحصل على الثقة. في هذا الوقت كان مهاتير يهدد بإسقاط الحكومة في أول جلسة للبرلمان، مدعيا أنه هو الذي يحظى بأغلبية أصوات البرلمان، ومعلنا أنه عائد للسلطة مجددا.
وبما أن جلسة البرلمان لمنح الثقة تحدد موعدها في مايو، فقد إضطر مهاتير أن ينتظر أكثر من شهرين لتنفيذ تهديده. في هذه الأثناء إستغل ياسين مهلة الشهرين لترسيخ أقدامه في السلطة عبر تهيئة أغلبية برلمانية تنقذه من السقوط والإستسلام. ويمكن القول أن إجتياح وباء كورونا المستحدث لماليزيا كغيرها من البلدان، وما رافق الحدث من تراجع الإهتمام بالشأن السياسي وتزايد المخاوف والقلق على الصحة وانهيار أسواق المال والأعمال وحظر الأنشطة والإجتماعات المباشرة صبت كلها في صالح ياسين. وآية ذلك أن رئيس مجلس النواب الماليزي محمد عارف بن محمد يوسف قرر أن تقتصر جلسة البرلمان القادمة على مراسم إفتتاح سريعة دون أي نقاشات أو مساجلات. وبهذا لن يجري طرح الثقة بالحكومة كما طالب مهاتير. كما أن أعمال البرلمان لن تتوقف لمدة ستة أشهر متتالية كي تتم الدعوة إلى إنتخابات جديدة (عملا بمواد الدستور) مثلما تمنى مهاتير وأنصاره.
وهكذا فإن جائحة كورونا المستحدث منحت ياسين القدرة على التنفس، وكذا الفرصة لتعزيز تحالفاته وشراء ولاءات سياسية وإقتصادية جديدة من خلال التعيين في مناصب حكومية أو في المؤسسات المرتبطة بالدولة.
ومن بركات كورونا على ياسين أيضا أن زعامة “حزب بيرساتو” المتنازع عليه لم يكن بالإمكان حسمها ديمقراطيا. وهذا أمر قيل أنه يسعد ياسين، الذي يـُعتبر حتى الآن زعيما رسميا للحزب، ويزعج مهاتير الذي يريد المنصب لإبنه “مخريز مهاتير” رئيس حكومة ولاية قدح، علّ الأخير يصعد من خلاله إلى زعامة ماليزيا مستقبلا. وقد ظن الكثيرون أن حسم الأمر متروك إلى أجل غير مسمى بسبب تداعيات الوباء الصيني، لكن ما حدث في 28 مايو الجاري هو أن ياسين طرد مهاتير وإبنه وبعض مؤيديهما من الحزب في ضربة استباقية غير متوقعة.
Elmadani@batelco.com.bh
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الماليزي من البحرين