تجري الانتخابات العامة في الهند كل خمسة أعوام بسلاسة وهدوء وأمن وأمان (إلا فيما ندر) يعقبها تسليم الجميع بنتائجها وإلاقرار بسلامتها، فيما الجيش في ثكناته بعيدا عن أي تاثير أو تدخل في سير العملية الانتخابية. بينما يسبق الحدث نفسه في باكستان موجة من أعمال الخطف والقتل والحرق والتفجير والاعتداء، وتليها موجة من أعمال التشكيك في نزاهة الانتخابات وعدم القبول بنتائجها وقيام الحزب الخاسر بدعوة أنصاره للإضراب والاعتصام.
وهذا تحديدا ما حدث في انتخابات باكستان الأخيرة في 25 يوليو والتي لم تختلف عن سابقاتها إلا في أمر وحيد هو صعود “حركة الانصاف” بقيادة لاعب الكريكيت السابق عمران خان نيازي إلى السلطة، مستفيدا مما لحق بحزب “الرابطة الاسلامية” من ضعف على خلفية الحكم على زعيمه رئيس الحكومة السابق نواز شريف بالسجن والغرامة ومنع الاشتغال بالسياسة (بدليل أن مرشحه وزعيمه الجديد شهباز شريف أخفق في الفوز بمقعد يـُدخله البرلمان)، ومستفيدا أيضا من أفول شعبية “حزب الشعب” الذي كان يوما ما زمن زعيميه السابقين ذو الفقار علي بوتو وابنته بي نظير بوتو حزبا جماهيريا كاسحا، وذلك بسبب فضائح الفساد التي لاحقت زعيمه السابق آصف علي زرداري من جهة ثم بسبب أيلولة قيادته من جهة أخرى إلى شاب خجول غر لم يتعلم بعد أبجديات السياسة والحكم ونعني به “بيلاوال بوتو زرداري” إبن بي نظير من زوجها زرداري، علما بأن بيلاوال لم يستطع الفوز بمقعد لنفسه في البرلمان، وهو ما عدّ فضيحة لوريث آل بوتو، وهزيمة نكراء لحزب الشعب المتنفذ تقليديا في إقليم السند.
صحيح أن عمران خان نجح في كسر ثنائية الرابطة الإسلامية ــ الشعب التي ظلت تتناوب على السلطة في العقود الأخيرة، وحقق بذلك حلم حياته. وصحيح أن حزبه نجح في الحصول على أغلبية مقاعد إقليم البنجاب (معقل عائلة شريف الاقطاعية، وأكبر أقاليم باكستان سكان وأهمها من الناحية الاقتصادية)، وأغلبية مقاعد اقليم خيبر بختونخوا، الأمر الذي يعني إدارة حزبه لهذين الإقليمين عبر تشكيله حكومة محلية في كل منهما. لكن الصحيح في المقابل أن حظوظه في قيادة باكستان إلى بر الأمان وانجاز الوعود التي قطعها على نفسه تبدو ضعيفة وتشوبها الضبابية. فداخليا يواجه الكثير من المشاكل الأمنية معطوفة على حالة اقتصادية بائسة نجد تجلياتها في ديون البلاد الخارجية البالغة أكثر من 90 مليار دولار وديونها للبنوك الوطنية البالغة أكثر من 60 مليار دولار، علاوة على خلل كبير في المستويات المعيشية والخدمية وإرتفاع معدلات البطالة والتضخم، ناهيك عن تفشي الفساد الذي جعل عمران خان محاربته والقضاء عليه على رأس برنامجه الانتخابي.
أما خارجيا فيواجه أيضا جملة من الملفات الكبيرة مثل علاقات التحالف التاريخية مع الولايات المتحدة المصابة بعدم الثقة والعطب منذ فوز الرئيس دونالد ترامب بالرئاسة الأمريكية، ثم علاقات بلاده المتأزمة منذ الازل مع الهند، وأخيرا علاقات بلاده مع جارتها الأفغانية المصابة بالكساح بسبب تدخلات اسلام آباد المعروفة في الشأن الأفغاني ودعمها “المزعوم” لأنشطة الميليشيات الطالبانية ضد حكومة كابول الشرعية. هذه الملفات وغيرها من الملفات الخارجية قد لا يستطيع عمران التعاطي معها بنجاح بسبب قلة خبرته في السياسات الخارجية والعلاقات الدولية، على الرغم من حصوله على شهادات في الفلسفة والسياسة والاقتصاد من جامعة أكسفورد البريطانية.
قلنا في مقال سابق وقال معنا بعض المراقبين باحتمال وصول عمران خان إلى السلطة بدعم خفي من الأجهزة العسكرية والأمنية الباكستانية التي حكمت البلاد مباشرة أو من خلف الستار على الدوام طيلة العقود الستة الماضية منذ إنقلاب الماريشال محمد أيوب خان في عام 1958 وكان سبب إعتقادنا هذا هو أن من مصلحة الجيش الباكستاني وجود رئيس حكومة ضعيف يفتقد إلى مؤهلات القيادة والإدارة داخليا وخارجيا، ويفتقد أيضا إلى أغلبية برلمانية مريحه تساعده في إنجاز ما يريد دون عراقيل، كي يقوم هو (أي الجيش) بنسج الخيوط من وراء الكواليس. وفي سياق دعم الجيش لعمران أثناء الانتخابات أشار البعض إلى أن مرشحي حزبه كانوا الوحيدين الذين تمتعوا بالحماية الأمنية، وبالتالي لم تتعرض حملاتهم للتخريب.
وبطبيعة الحال نفى عمران هذه المزاعم، بل راح يمتدح ويشيد بدور قوات الأمن والجيش في تأمين الانتخابات وانجاحها واصفا إياها بأنزه إنتخابات في تاريخ باكستان. وسبب هذا الإطراء واضح ومفهوم وهو فوزه بأكثر عدد من مقاعد البرلمان (115 من أصل272). ذلك أنه لو لم يتقدم على خصومه لهاج وماج واتهم الجميع بالتآمر ضده مثلما فعل مرارا وتكرارا منذ تقاعده عن لعب الكريكيت ودخوله حلبة السياسة في عام 2002 من خلال حصوله آنذاك على مقعد في البرلمان كنائب عن مدينة ميانوالي في إقليم البنجاب. والملاحظ في هذا السياق أيضا أن عمران، بمجرد ظهور نتائج الانتخابات الأخيرة دعا خصومه إلى الإقرار بهزيمتهم وعدم رفض النتائج من خلال التحشيد الشعبي والتظاهر والاعتصام ومنع الحكومة من العمل، على نحو ما هدد به بعض الأحزاب والجماعات الخاسرة وفي مقدمتها الأحزاب والجماعات الإسلامية المنضوية تحت “تحالف مجلس العمل المتحد” بقيادة الأصولي المتشدد الشيخ فضل الرحمن الذي خسر مقعده البرلماني فيما لم تفز جماعته إلا بإثني عشر مقعدا بعدما كان لها في البرلمان السابق أكثر من ذلك.
وهذا بطبيعة الحال عكس ما دأب عمران على فعله في كل مناسبة انتخابية في الماضي، حيث شوهد على الدوام في مقدمة المحرضين ضد الحزب الفائز سواء كان الرابطة الاسلامية أو حزب الشعب، وعلى رأس المتظاهرين والمعتصمين والمضربين لتعطيل عمل الحكومة.
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي