كأن الحزب الإلهي يقول: “حسناً، في هذه المرحلة الانتقالية، انا حاضر للاعتراف بضرورة عدم التعرض في العلن الى ما يمثله بشير الجميل في وجدان من يؤمنون برمزيته وشهادته، وإن بقيتُ في السر أنعته بالعميل. في المقابل، عليكم انتم ان تعترفوا بأني أصبحت جزءاً مدنياً من الحياة السياسية اللبنانية، وعليكم ان تطووا كل ارتكابات جماعاتي وكل ما ألصق بهذا الحزب من اتهامات وكل التاريخ القريب، ولتكن مسامحة لفظية تليق بالوجه الجديد الذي نسعى إليه”.
صحيح ان البعض قرأ في اعتذار الحاج محمد استدراكاً لشطب ما يمس بحليفه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون. في الامر الكثير من الواقع، كما في الأمر الكثير من الاستغراب لعدم اندلاع حملة غضب مقرونة بكل أدبيات ردود الفعل المعهودة لدى من يتولى عادةً الدفاع عن العهد.
السبب لا يحتاج الى الاجتهاد عندما يتعلق الأمر بالحليف الذي التزم كل بند من بنود الاتفاقية، والذي لا بد من مراعاته لأن استحقاقات المرحلة المقبلة طموحة وكبيرة، وعلى قدر العزم تأتي العزائم.
فلو ان قائل مقولة ان “الرئيس عون وصل على بندقية المقاومة” هو من حركة “أمل”، لكان الجيش الالكتروني للتيار العوني قام بالواجب، كما فعل سابقاً لأقل من هذه المقولة. ولو ان القائل من “القوات اللبنانية” او من “الحزب التقدمي الاشتراكي” أو من “تيار المردة” او من “تيار المستقبل”، لكنا شهدنا حفلة إلغاء واتهامات وشتائم اين منها “حرب الفِجَار”، وهي إحدى أشرس حروب العرب في الجاهلية بين قبيلة كنانة (منها قريش) وبين قبائل قيس عيلان.
لكن الله قدّر ولطف، وحصل الاستدراك في الغرف الجانبية، وتمت المشاورات لإخراج الجمل الثقيلة والعامة بشكل ما، والمتجنبة الأسماء في المباشر، للوصول الى الصيغة التي تم إخراجها، ليعتبرها المهللون سابقة يُبنى عليها وتستحق الثناء. كأن “حزب الله” سلّم سلاحه الى الدولة اللبنانية، وتخلى عن استراتيجية محوره الدفاعية على حساب السيادة. أكثر ذلك، كأنه سلّم من لا يزال على قيد الحياة من المتهمين في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، لتأخذ العدالة مجراها.
لم يتوقف المهللون عند اقتصار الاستسماح والاعتذار على رئيس مجلس النواب نبيه بري دون غيره. وليس في طياتها الا اعتبار ما قاله الأخ النائب نواف الموسوي سجالاً وليس تبرير اغتيال الرئيس بشير الجميل لأنه “خائن، وصل الى رئاسة الجمهورية على الدبابة الإسرائيلية، بالتالي يصبح إهدار دمه واجباً شرعياً، ويصبح قاتله بطلاً تتوجب حمايته وتهريبه من العدالة الى ربوع النظام الأسدي”.
كما ان “الانفعال الشخصي” يعني ان الغضب يدفع الغاضب الى قول ما يعتمل في وجدانه من حقائق من دون مرعاة او رقابة ذاتية. بالتالي، ما قاله “احد الاخوان” ليس مداناً الا بالقدر الذي تدان به بلدية بيروت عندما تحفر الطرق وتضع لافتة بجانب الحفرة كُتب عليها “نأسف لإزعاكم. ونعمل لخدمتكم”.
مع هذا، حاز ما سُمِّي اعتذاراً، ما تداعى اليه المهللون من “طنّة ورنّة”، وهشّوا وبشّوا لظنهم ان الحزب بدأ مرحلة جديدة، او لرغبتهم بهذا الظن وتسجيل انتصارات لفظية توهمهم بأنه تنازل عن تعاليه، واستحق عن جدارة صفة “المواطنة” التي ينتقد كثيرون غيابها عن هيكليته.
التصفيق الذي أعقب كلام رعد واعتذاره الخالي من فعل الندامة، سيُصرف في ملفات داخلية، تستدعي بعض “الضحايا” استكمالاً لمسار التموضع في الشؤون الداخلية، التي لن تتناقض مع الإيديولوجيا المستمرة والمُسخّرة لتعويم اقتصاد رأس محوره الراضي بصفقات تسدَّد قيمتها بالليرة اللبنانية. وتوحي انها تغار على المال المهدور والكهرباء المنهوبة، لتدخل في عمق الملفات “الدسمة” وتشارك فيها وتعِد الذين لم تعُد تتمكن الا من دفع نصف رواتبهم، بأن الخير قادم، ومن مقتدرات هذه الدولة ومؤسساتها وإداراتها.
فما قاله رعد ليس وليد الاحراج تجاه رئيس الجمهورية، وليس نفياً لما قيل عن ان “حزب الله” يسيطر على الحكومة. ما قاله رعد يصب في “النيو لوك” الجديد للحزب، على حساب صيغته الحالية الأممية والعابرة للقارات، وسعيه الى صيغة جديدة لبنانية محلية بحتة. ردّ بري على رعد بأنه شطب “الانفعال الشخصي” من المحضر، فيه الكثير من “قد اتاك يعتذر… الى… ليس يكذب النظر”. او قد يكذب. من يدري؟!
sanaa.aljack@gmail.com