خلف مبارزة “الديكة” تكمن معركة هوية حول انتماء تركيا وموقعها في اللعبة الدولية، كما حول صلة فرنسا بالشرق وبحوض البحر المتوسط.
يحتدم التوتر بين فرنسا وتركيا على خلفية الموقف من الملف الليبي. وتصاعد التوتر الكلامي أخيرا مع اتهام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون علنا نظيره التركي رجب طيب أردوغان بعدم احترام التزامه بتفاهمات وقف إطلاق النار التي تم التوصل إليها في مؤتمر برلين.
استدعى ذلك ردا من وزارة الخارجية التركية يتهم فرنسا بتأزيم الوضع في ليبيا من خلال دعمها للجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر. لكن الصلات ما بين باريس وأنقرة التي تواصلت تاريخيا وحفلت بالتناغم في بعض المحطات، اتسمت غالبا بتعقيدات وتناقضات حول البحر المتوسط ومسارح أخرى، وما نشهده اليوم من خلاف حول ليبيا ليس إلا تأكيد على التنافس في سياق حروب الطاقة وتحديد مناطق النفوذ، وربما يمتد نحو التموضع الجيوسياسي لفرنسا وتركيا.
والأرجح أن اختبار القوة بين الجانبين يتصل بملفات أخرى تخص المسألة الكردية وشرق المتوسط، وتتوقف نتيجته على تفاهمات بين مختلف الأطراف المعنية ومنها روسيا والولايات المتحدة وإيطاليا وأطراف أوروبية وإقليمية في لعبة دولية لا ترحم في ليبيا البلد الذي تهافتت عليه الدول للطمع في ثرواته، فإذ به يتحول إلى فخ وبؤرة صراع مصالح وتهديد متعاظم للاستقرار والأمن.
تنطلق باريس وأنقرة من مقاربتين متناقضتين حيث تركز فرنسا على خطورة “استمرار تركيا في دعم الميليشيات المسلحة في ليبيا عبر إرسال أسلحة ومرتزقة”، بينما ترد تركيا بمقولة استدعائها من “حكومة السراج الشرعية” مع نبش للتاريخ والتذكير “بالماضي المظلم” لفرنسا، في إشارة إلى تاريخها الاستعماري في أفريقيا بشكل عام، والجزائر خاصة.
هذا الهجوم التركي المتجدد ضد فرنسا، يأتي بعد رصد حاملة الطائرات شارل ديغول فرقاطة تركية رافقت شحنة مدرعات إلى ليبيا في موازاة تقارير إعلامية تشير إلى رسوّ بارجتين حربيتين تركيتين في ميناء طرابلس، في سابقة من نوعها منذ بدء تركيا إرسال جنود ومرتزقة سوريين لدعم قوات حكومة الوفاق في معارك طرابلس.
وحسب مصادر فرنسية وأفريقية متقاطعة هناك خشية فعلية من تسريب العشرات من العناصر الجهادية والداعشية الآتية من الشمال السوري صوب الساحل وغرب أفريقيا مما يشكل تهديدا إرهابيا مباشرا للقارة السمراء وأوروبا على حد سواء.
بالرغم من الاحتدام في الملف الليبي، لا ينحصر صراع الديكة بين أردوغان وماكرون في هذا النطاق، وليس هو بالجديد إذ سبق لهما الاشتباك قبل أسابيع حول العملية التركية في شمال شرق سوريا وتقييم دور حلف شمال الأطلسي الذي يضمهما.
حينها تلفظ أردوغان بعبارات قاسية وخارجة عن العرف الدبلوماسي في تهجّمه على ماكرون. وما كان من الرئيس الفرنسي إلا تجاهله ومن ثم مقارعته في مؤتمر برلين حول ليبيا والدفع للمزيد من عزلة أنقرة أوروبيا. وبالطبع، يدرك الرئيس الفرنسي أن نظيره التركي يعتمد على واقعية سياسية في اللعب على تقاطعات وتناقضات موسكو وواشنطن من سوريا إلى شرق المتوسط وليبيا، ولذا رتبت باريس صلاتها مع روما وقلصت من التباينات معها حول الملف الليبي وانضمت إلى منتدى غاز شرق المتوسط الذي يجمع مصر وإسرائيل واليونان وقبرص وإيطاليا مما يمنحها موقعا أفضل بين الأطراف الرئيسية في اللعبة حول البحر المتوسط، خاصة مع عدم الاعتراف بمذكرتي تفاهم وقعتهما الحكومة التركية وحكومة الوفاق، في الـ27 من نوفمبر 2019، تنص أولاهما على تحديد مناطق النفوذ البحري بين الطرفين، فيما تقضي الثانية بتعزيز التعاون الأمني والعسكري بينهما.
ومن أجل إحاطة أفضل للصلات التركية – الفرنسية، لا يمكن عزل التلاسن الحاد بين أردوغان وماكرون من حين إلى آخر، عن تراكم ملفات تؤشر لعلاقة مضطربة بين فرنسا وتركيا: ملف اتهام باريس لتركيا بارتكاب جرائم إبادة جماعية ضد الأرمن، الموقف من المسألة الكردية والصلة الفرنسية مع قوى تمثيلية للأكراد في سوريا، كما أن رفض فرنسا للحاق تركيا بركب الاتحاد الأوروبي، كان له انعكاسه السلبي على ضفاف البوسفور. وهذا التعارض في المصالح بين الدولتين في أكثر من واقعة لا يحجب وجود علاقات اقتصادية وثقافية وإنسانية قوية بين الجانبين.
في العودة إلى الجذور التاريخية، تميزت العلاقات بين فرنسا وتركيا بالواقعية على الصعيد الجيوسياسي. وتلاقت المصالح مليّا عند قيام فرانسوا الأول بتوقيع معاهدة تحالف مع السلطان العثماني سليمان القانوني بهدف تطويق إمبراطورية آل هابسبورغ النمساوية – الألمانية.
واتضح للمؤرخين أن هذا التحالف كان لصالح فرنسا مما سمح لها بإضافة نفوذ كبير لها داخل بلاد الشام، من بوابة حماية مسيحيي جبل لبنان (1860). واليوم يحصل تقريبا العكس، إذ تراقب ألمانيا إنجيلا ميركل الاشتباك التركي – الفرنسي من دون اهتمام ومبالاة. واللافت أيضا أن مسعى ماكرون للانفتاح على روسيا سبقته تفاهمات وتجاذبات بين القيصر والسلطان في هذه الحقبة، فيما “ماكرون بونابرت” حسب توصيف الرئيس ترامب له، لا يتمكن من تسجيل نقاط حاسمة في مواجهاته الخارجية.
والمخفي في الملف الفرنسي – التركي ربما يكمن في سعي أردوغان لمحو التأثير الحاسم السياسي والثقافي الذي مارسته فرنسا خلال حقبة تأسيس الجمهورية التركية على أنقاض الإمبراطورية العثمانية واستلهام أتاتورك لأفكار التنوير الفرنسية في بناء درب الحداثة والتقرب من الغرب.
خلف مبارزة “الديكة” تكمن معركة هوية حول انتماء تركيا وموقعها في اللعبة الدولية، كما حول صلة فرنسا بالشرق وبحوض البحر المتوسط. إنها خطوط تماس دينية وثقافية وحضارية وجيوسياسية في صراعات تحريك الخرائط والتحالفات والمصالح ضمن ” الفوضى الاستراتيجية” في العالم.