في ذكرى اربعين الشهيد جورج حاوي في ١٥ اب ٢٠٠٥، اطل محسن ابراهيم بعد طول غياب، مستذكرا مرحلة تاريخية طويلة من تاريخ لبنان والعالم العربي كان جورج حاوي فاعلا ومؤثرا فيها، الى جانب آلاف اليساريين “اللي كانوا عاجقين الكون”، ذاكرا بالطبع لحظة إطلاق المقاومة الوطنية اللبنانية للاحتلال الاسرائيلي بعد اقتحام بيروت في أيلول ١٩٨٢ في اعقاب اغتيال بشير الجميل. وكان ابو خالد وأبو انيس قد صاغا بيان إطلاق المقاومة من مكان ما في أم الدنيا بيروت، والتي كانت منظمة التحرير قد غادرتها، بعد ان صمدت المدينة بمقاوميها بوجه حصار الة الحرب والدمار الاسرائيلية شهورا طوال.
ومع ان اطلالة بطريرك اليسار محسن ابراهيم بعد طول انكفاء اعتبرت حدثا مهما، الا ان ما قاله في المناسبة شكل الحدث الابرز.
قال ابو خالد، وفي اطار النقد الذاتي لتجربة الحركة الوطنية التي كان امينها العام، بأن الحركة “في معرض دعمها نضال الشعب الفلسطيني ذهبت بعيداً في تحميل لبنان من الأعباء المسلحة للقضية الفلسطينية فوق ما يحتمل، طاقة وعدالة وانصافاً”. واعتبر أن الخطأ الثاني “هو استسهالنا ركوب سفينة الحرب الأهلية تحت وهم اختصار الطريق إلى التغيير الديمقراطي غير اخذين بالاعتبار التركيبة الداخلية اللبنانية”.
لم تكن المرة الاولى التي يقارب فيها محسن ابراهيم هذه القضايا، اذ كان قد بدأها بكتاب الحرب وتجربة الحركة الوطنية في الثمانينيات، لتتطور المراجعة ولتتحول لإعادة قراءة فكرية وبرنامجية شاملة، خصوصا في اعقاب سقوط الاتحاد السوفياتي وحرب الخليج وانتفاضة فلسطين، ومن ثم إطلاق مفاوضات السلام في مدريد واتفاق اوسلو وإنشاء السلطة الفلسطينية، فضلا عن اتفاق الطائف وبدء الوصاية السورية على لبنان بمباركة اميركية.
استكملت المراجعة بعد سنة ٢٠٠٠ ضمن عنوان “نحو مشروع تجديدي لليسار في لبنان” وقد نشرت خلاصاتها في أوراق يسارية وفي وثائق المنظمة التي شاركت كوادرها في نقاش هذه الوثائق، واهمها كتاب “في الاشتراكية” الذي تضمن مراجعة شاملة للماركسية بكل مقولاتها ومفاهيمها ومناهجها.
هكذا فتحت المنظمة رئتها الفكرية لروافد متنوعة بينها الماركسية، مودعة النظرية الشيوعية، رغم تأكيد الانتماء للاشتراكية والحركة اليسارية عموما.
شكلت هذه المراجعة التي اطلقها محسن ابراهيم اسهاما في الجواب على ازمة اليسار في العالم، ذلك ان الازمة الفكرية طالت جميع الاحزاب الشيوعية والاشتراكية واليسارية، خصوصا مع صعود النيوليبرالية ونشوء العولمة وثورة المعلوماتية، والتغيير الجذري في انماط الإنتاج، فضلا عن التحولات الاقتصادية في الصين.
وفي قراءة نقدية للحرب اللبنانية، كان محسن ابراهيم واضحا في القول، ان الطفرة الفلسطينية واصطدامها بالتكوين اللبناني شكلت عامل التفجير ، خصوصا حين اصبح لبنان وحيدا في تحمل نتائج العمل الفدائي، بعد ان انجز الملك حسين تصفيته في الاردن بالسكوت أو بالتواطؤ مع قيادتي البعث المنشطر فئويا في العراق وسوريا مع الديكتاتوريين المستبدين صدام حسين وحافظ اسد.
الجديد هو السياق الذي اتى فيه الكلام، اذا بدا كأنه اعلان لعودة اليسار اللبناني الضائع بعد استشهاد الحريري وانتفاضة ١٤ آذار وخروج القوات السورية والدخول في مرحلة الإخضاع الإيراني للبنان.
لقد اغتيل جورج حاوي بعد انتخابات الشمال التي فازت فيها ١٤ آذار، وكان قد اغتيل قبله المناضل والمثقف اليساري سمير قصير، ما عنى بان الة القتل والإجرام التي بدأت بمحاولة اغتيال مروان حمادة ونجحت بتفجير رفيق الحريري ورفاقه بطنين من المتفجرات ستستمر في تصدر المشهد، ما ادى لاحقا لاغتيال قادة سياسيين وإعلاميين وعسكريين وأمنيين من الحركة السيادية، ثم محاصرة السراي الحكومي سنتين وتعطيل وسط بيروت في أعقاب حرب ٢٠٠٦ وصولا لاحتلال بيروت في ٧ ايار ٢٠٠٨واتفاق الدوحة المشؤوم.
كان الرهان على تصليب ثورة الأرز كبيرا، بعد ان بدأت تفقد نكهتها التوحيدية، حتى ان سمير قصير طالب بانتفاضة ضمن الانتفاضة قبل ان تصطاده اليد المجرمة. لذا كان لخطاب ابو خالد ترددات كثيرة، على أمل نشوء قوة يسارية مستقلة وعابرة للطوائف، تفرمل الاندفاعات الطائفية والمذهبية في حركة ١٤ آذار ، حتى ان الكاتب المستقل في جريدة النهار سركيس نعوم اعتبر في “الموقف” ان عودة محسن ابراهيم ربما تحيي اليسار وتطلق دينامية جديدة، خصوصا ان الأمانة العامة للحركة تضم بعض رفاقه، ومنهم الراحلين نصير الأسعد وسمير فرنجية. ولم يكن احد بالطبع يأمل الكثير من الحزب الشيوعي اللبناني الذي حاول التموضع في الوسط بين ٨ و ١٤ آذار ، فبدا انذاك وكأنه يساوي بين القاتل والضحية.
لم تكن المراهنات في محلها، فلم يركب محسن ابراهيم هذا المركب السائر في البحر اللبناني والإقليمي الهائج. ذلك انه فضل متابعة المراجعة التنظيمية على هامش الأحداث من ان يشارك في صناعتها، هذه المرة من القاعدة وليس من القيادة التي تنكبها قادة الطوائف، مدركا ان العمل اليساري الوطني المستقل بحاجة لحاضنة شعبية تحمل هذا اليسار، وتتطلب البناء بالحفر الطويل النفس. أما ناشطي اليسار الديمقراطي الذين تيتموا بعد استشهاد سمير قصير ولجوء الياس خوري الى صناعته المفضلة في الكتابة، فقد التحقوا “بطائفة اليسار”، بينما تابع سمير فرنجية وفارس سعيد ورفاقهما المشاغبة من خلال الامانة العامة ولاحقا المجلس الوطني القصير العمر قبل ان يتفرق العشاق وتتشظى ١٤ آذار وتتمدد سيطرة حزب الله العسكرية والسياسية، وصولا للاطباق على البلد وللانهيار الذي نشهده.
كان “السيد” محسن ابراهيم ابن بلدة انصار الجنوبية في سن الثالثة عشر عندما وقعت نكبة ١٩٤٨ وشهد الجنوب تدفق اللاجئين الفلسطينيين، ما اثر في تكوين شخصية الفتى، فنشأ لبناني الانتماء، فلسطيني القلب، عربي الهوى، وسيصادق في مسيرته السياسية لاحقا الثلاثة الكبار، الزعيم عبد الناصر والقائد ابو عمار والمعلم كمال جنبلاط.
شارك ابو خالد في الخمسينيات في تأسيس حركة القوميين العرب إلى جانب جورج حبش ووديع حداد، وكان اللبناني الأقرب إلى قلب وعقل عبد الناصر، ومع انه قاد انتقال الحركة لبنانيا بعد هزيمة ١٩٦٧ الى الماركسية، الا انه ظل وفيا لصداقة الزعيم المصري، فكتب في الحرية ” كلا لم يهزم عبد الناصر”.
قاد ابو خالد عملية توحيد اليسار الجديد عبر إدماج منظمة الاشتراكيين اللبنانيين ولبنان الاشتراكي، مطلقا مع وضاح شرارة واحمد بيضون وفواز طرابلسي واخرين منظمة العمل الشيوعي في لبنان، والتي ظل أمينها العام حتى رحيله.
شكلت “المنظمة” الشيوعية الجديدة، والتي طبعها محسن ابراهيم ورفاقه بطابع لبناني وبنكهة فلسطينية وبآفاق عربية، اشكالية حقيقية بوجود حزب شيوعي رسمي واحزاب اشتراكية ويسارية مختلفة. ذلك انها شكلت جاذبا للشباب اللبناني المثقل بتداعيات الهزيمة، والمتأمل بالمقاومة الفلسطينية، خصوصا بعد معركة “الكرامة”، علما ان ذلك الجيل تأثر عالميا بانتفاضة ايار ١٩٦٨ في فرنسا وبرمزية تشي غيفارا، واستبدل العندليب الأسمر وكوكب الشرق بالشيخ إمام. وفد عززت هذه الاشكالية، التوترات الفكرية والسياسية التي رافقت “المنظمة” في شق طريقها المستقل والمتعارض مع “نضال كلاسيكي رسمي”، قبل ان يبدأ التعاون مع كمال جنبلاط وجورج حاوي وصولا لإنشاء الحركة الوطنية وصياغة محسن ابراهيم لبرنامجها المرحلي للتغيير.
جمعت شخصية ابو خالد النخبوية بين التوقد الفكري والألمعية السياسية والطرافة الشخصية، فضلا عن سرعة البديهة.
وشهدت المنظمة في سنواتها الأولى كما في سنوات المراجعة الطويلة الأمد مجموعة من الانشقاقات والانسحابات حتى قالت إحدى الصحف مرة “متى ينشق محسن عن ابراهيم”.
من غير المستغرب اعلان ابو مازن تنكيس الإعلام ليوم واحد في فلسطين حدادا على ابو خالد، ذلك ان الراحل ارتبط ارتباطا عضويا بالقضية الفلسطينية وكرم بجائزة فلسطين الأهم. فكما وقف بوجه النظام السوري دفاعا عن حرية واستقلال وعروبة لبنان، معلنا مبكرا انسحاب المنظمة من الحروب الأهلية ضمن شعار “لا بندقية مشروعة الا بمواجهة الاحتلال”، بقي مدافعا عن الفلسطينيين بوجه العبث والهيمنة السورية، رغم الكلفة الكبيرة التي دفعها هو والرفاق. ومع ذلك فقد كان ينتقد التجاوزات الفلسطينية، لدرجة رعاية احتجاجات شعبية في صيدا وغيرها ضد هذه التجاوزات، وصولا للقول لأبو عمار في احتفال كبير في الجامعة العربية، وفي معرض انتقاد سياسة الأخير في تفريخ ودعم زعماء قبضايات الأحياء، “أعطيناك البلد بالجملة فلماذا تصر على اخذه بالمفرق”.
شكلت خلطة ابو خالد جاذبا للكثيرين إلى “محطة المنظمة” كما كان يسميها طلال سلمان، ومع أني غادرتها في مرحلة متأخرة نسبيا مع كثير من المعترضين على التأخر في ترجمة المراجعة الفكرية والتنظيمية الى برامج وخطط في ظل احتلال واستتباع سوري ولاحقا إيراني للبلد، الا انني بقيت منجذبا لهذا الرمز الاستثنائي. ولطالما استشرناه في المحطات الصعبة، خصوصا حين واجهت هيئة التنسيق النقابية في التسعينيات ادوات النظام الأمني السوري اللبناني وجماعاته.
تعرفت على ابو خالد في محطات نضالية بارزة، أهمها مظاهرة ٢٣ نيسان سنة ١٩٦٩في البربير والتي سقط فيها شهداء بسلاح السلطة بينهم طرابلسيون، الا ان لقائي الشخصي الاول معه حصل في في منزله حين زرته مع الرفيقة سميرة عكاوي في حزيران ١٩٧٣ لمعرفة مصير اخيها الثائر علي عكاوي و”المفقود” في السجن، فاتصل بالوزير كمال جنبلاط في الحال ليقال ان عليا كان قد قضى في المستشفى من “انفجار الزائدة”.
يغادرنا ابو خالد فيما يمر البلد المصاب بلعنة الموقع بمنعطف شديد الوطأة وبالغ الخطورة على طبيعته وميزاته وحتى كيانه، وفي أيام تذكرنا بهزيمة ٦٧ واجتياح ٨٢، ولكنها تحمل الأمل بالانتفاضة وبالشباب العابر للطوائف رغم التهويل والتهديد والصعوبات.
عزاؤنا انه ترك تراثا فكريا وسياسيا ونضاليا كبيرا مع أمل بان يكون قد عهد بمذكراته الدسمة لاحد مقربيه. وعزاؤنا ايضا انه اعاد منذ فترة اطلاق المنظمة بعد طول انكفاء، كما رعى مشاركتها رغم مرضه في انتفاضة ١٧ ت١. وهي مشاركة تظهر، في مضمونها ونشاطاتها وشعاراتها التي تطاول خطر حزب الله داخليا وخارجيا عبر فائض القوة، وجها وطنيا وعربيا وعلمانيا لليسار المتجدد، يختلف عن يسار حجري يخدم بشعاراته تسلط حزب الله وسلاحه، قناعة او تعاميا، كما حصل في مشهدية ٦ حزيران وما تلاها، حيث تناوبت “علمانية” هذا اليسار ومذهبية الثنائي الشيعي على التخريب في هذه المشهدية، مع تهويل على المنتفضين من حكومة لا وجه لا ظل لها، بل هي صدى لمفبريكيها، ومع عهد يتلهى بتعداد الغنائم في بلد منكوب،بينما يتلاعب رعاته بالسلم الأهلي. واضعين البلد الصغير على فوهة بركان.
وداعا يا ابا خالد، لقد تركت في قلوبنا غصة،
وما احوجنا إلى حكمتك وابتسامتك في هذا الزمن الرديء. ستبقى في ذاكرتنا رمزا فريدا من رموز الزمن اليساري الجميل.
talalkhawaja8@gmail.com
«وداع بطريرك اليسار » مثل رثاءات « خوري الضيعة » الذي تدفع له عائلة الفقيد ليتفنّن في الحديث عن « حسنات الراحل ».. فقط! محسن ابراهيم- مثل بعض من كان في المعسكر الآخر- لعب دوراً، صغيراً، في تدمير « لبنان الجميل » وتسليمه إلى المنظمات الفلسطينية، وميليشيات اللصوص (بما فيها « ميليشيا المنظمة »)، ثم لـ »سوريا الأسد »، والآن «إيران الملات »! صحيح أنه « اعتذر » متأخراً جداً جداً.. عن مشاركته في الحرب الأهلية. ولكن الراحل الآخر « العفيف الأخضر » كان ضد الحرب الأهلية في « لبنان الجميل »، وضد مشاركة اليسار فيها، منذ ١٩٧٥! وقال ذلك لمحسن ابراهيم بالذات قبل أكثر من ٣٠ سنة! مضحك أن لا تتطرق الرثاءات، في “الشفاف” وغيره، إلى… Read more »