حين كتبت مقال فلس الارملة بين شياطين السلطة وملائكة المعارضة، كانت صورة الشياطين تتمثل بما تكون في ذهني على مر الزمن، سواء من خلال القصص والحكايات، سواء من خلال ما قام ويقوم به الغزاة والطغاة وعبدة المال والجاه والسلطة من اعمال شيطانية على امتداد رقعة العالم المتضائلة.
والتركيز على فلس الارملة او الاحتياطي الالزامي، لا يقلل مما تطرحه مجموعات الحركة المدنية السيادية التي تركز حركتها السياسية على بناء جبهة المقاومة المدنية السلمية لتحرير البلد من الاحتلال الايراني المقنع بواسطة حزب الله المدجج بالسلاح والايديولوجيا.
وبالفعل فالحزب الذي يربض على مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية وحتى المعيشية، والمتمدد اقليميا تحت اشراف رعاته في ايران، ادى لعزل لبنان عن رئتيه العربية والدولية، ما عجل في اختناق البلد ووضعه على مشارف الانهيار التام، وصولا ربما لطوفان الفوضى. علما ان الحزب يستتبع بالتواطؤ او الخوف والاذعان طبقة سياسية تكون معظمها على هامش الحروب والصفقات المدعومة من قوى الوصاية والامر الواقع، خصوصا جماعة ذمية مار مخايل المتجلببة بلباس الاقليات وحقوق المسيحيين، والتي يسجل لها انها المساهم الاساس في رفع منسوب هجرة الكفاءات، المسيحية خصوصا لمستويات غير مسبوقة .
كما لم يكن ليقلل مما تطرحه باقي المجموعات والجبهات، بما فيها المجموعات الشبابية التي انبثقت من انتفاضة ١٧ تشرين التاريخية، والتي يبدو ان بوصلتها تتجه نحو المنازلة الانتخابية، بعد تعثرها في استعادة الحشود المنكفئة لاسباب سبق تناولها باسهاب. ويبدو ان هذه القوى قد استمدت شحنة اضافية من النجاحات الانتخابية في بعص الجامعات والنقابات المهنية ومن الضغط الدولي المتنامي لاجراء الانتخابات النيابية في موعدها. علما ان قيمة الانخراط في الانتخابات هي فيما تطرح دفاعا عن الحريات المهددة وعن السيادة المنتهكة بفائض القوة الفئوية، وليس بطرح شعارات الفساد فقط، او في استحضار نماذح في النظام السياس، تبدو ترفا في مرحلة الخطر الوجودي الذي يتطلب التمسك بالدستور، سلاح الذين لا سلاح لهم.
ان الاهداف المعلنة لجميع المجموعات والجبهات تتقاطع حول وقف الانهيار المتمادي في المرافق والمؤسسات العامة وفي كثير من القطاعات الحيوية، والذي بدأ يتحول اذلالا وقهرا للمواطنين، خصوصا في مواضيع البنزين والمازوت والكهرباء والمواد الغذائية وصولا لحليب الاطفال وخبز الغلابة. اما الدواء فتختصر معاناته صرخة الحاج بسام الصمد الباحث عن دواء لابنته ريما .
ومظاهر الانهيار اخترقت قطاعات الاستشفاء والتربية والتعليم الاكاديمي، حيث يهجر البلد المقهور نخبة من الاطباء والاساتذة بحثا عن الامان الاجتماعي والمهني. و تتهاوى قطاعات الخدمات والسياحة بعد ان تهاوى القطاع المصرفي الذي لطالما اعتبر درة التاج في النظام الاقتصادي اللبناني. اما المواقع الدستورية في بعبدا والسراي وفي المجلس النيابي فتحولت الى مهازل دستورية. فرئيس الجمهورية يرعى لقاء بين رئيس مجلس شورى الدولة والمدعى عليه حاكم البنك المركزي الذي بشر المودعين بعد اللقاء من منصة بعبدا بالعودة المظفرة للهيركات الكارثي على ودائعهم بالتعميم ١٥١ وبقرب الافراج المفخخ عن نسبة ضئيلة من ودائعهم، ملمحا لاستمرار بعض الدعم المقنن، وطبعا بضغط من سلطة حزب الله الفعلية وبتغطية من السلطة الرسمية في بعبدا والسراي، ومن المجلس النيابي الذي ما زال يعلك مشروع قانون الكابيتول كونترول بعد انقضاء اكثر من عشرين شهرا على انفجار الازمة، والذي اقر بطاقة تمويلية ملتبسة المحتوى و مصدر التمويل، تاركا التفاصيل لحياكة شياطين الانتخابات ان عقدت.
وفي غياب الحكومة والاصلاحات المطلوبة وفي استمرار وضع يد حزب الله على البلد، فان التمويل سيأتي حتما من فلس الارملة. علما ان شياطين السلطة تتربص لـ٩٠٠ مليون دولار حصة لبنان من IMF ولـ ٣٠٠ مليون دولار وهو قرض البنك الدولي المخصص للباص السريع بين بيروت وطبرجا.
والجدير ذكره ان الرئيس دياب استحق في اجتماعه مع السفراء ردا ناريا من السفيرة الفرنسية « آن غريو » على تحميله المجتمع الدولي مسؤولية انهيار لبنان، غامزا من قناة اللجوء غربا، مكررا ما يقوله السيد نصرالله. والسفيرة التي تجاهلت دور حزب الله، تعرف انه هو الذي يدير التهريب ويضغط على سلامة في صرف الاموال ويدير اقتصادا موازيا ويرفع المسدس متى اراد في وجه من يريد واين اراد. كما ردت السفيرة الاميركية ايضا مشيرة الى مسؤولية حزب الله، وكان الدبلوماسي البريطاني مارك لونغدن قد ادان السلطة الحاكمة، مفردا نقدا خاصا للحزب، قائلا في وداع اللبنانيين ان “هناك شيء عفن في قلب لبنان”.
حين ناشدنا منوعات المعارضة ان تتحلى بالتواضع وتمنينا عليهم تخفيف البحث في جنس الملائكة، والالتفات نحو ما تبقى من اساسات البلد التي تتداعى الواحدة تلو الأخرى ووضع خطة مشتركة لمواجهة القضايا الحياتية، ربما ينضوي تحتها تدريجيا بعض المجوعات المبعثرة والتي يمكن اختراقها وتوجيهها سلبا، كما حصل في المحاولة الفاشلة في طرابلس والتي هدفت لضرب الايقونة المتألمة بالجيش الوطني، لم نكن نتوهم بتوحيد المعارضات المختلفة بقالب واحد وبتجاوز القضايا السياسية والسيادية الرئيسية والتباينات حول مقاربتها.
وحين ركزنا على فلس الارملة والقضايا المعيشية، حيث تحولت حياة الناس اليومية الى جحيم فعلي،لم نكن نتوهم بانه يوجد حلول تقنية لهذا الموضوع، بل لاننا اردنا استدراك ان يترك ما تبقى من اموال ومقومات في يد الشياطين، خصوصا بعد ان ادرك الجميع كيف ان المليارات ذهبت عمليا ورغم تذاكي الحاكم لدعم النظام المجرم في سوريا، ربما كما ذهبت النيترات التي فتكت بالشعبين الشقيقين على ما يقال.
وهنا تجدر الاشارة الى ان الايجابية النسبية في ما يقوم به القاضي بيطار في التحقيق في جريمة المرفأ لم تحجب واقع القضاء المأزوم، اذ ما زال ماثلا امامنا المشهد السوريالي الذي مثله اداء القاضية عون، فضلا عن اللقاء السالف الذكر في بعبدا، وغير ذلك من الضغوطات والتهديدات التي تضرب يمنة ويسارا في سلك القضاء، حتى ان ظاهرة هجرة الكفاءات بدأت تتسرب لهذا السلك. وقد يضع هذا الواقع احمالا اضافية على اكتاف القاضي بيطار، خصوصا بعد ما سمعناه من السيد نصرالله من انتقادات واتهامات و بعد تمنع وزير الداخلية وتلكؤ المجلس النيابي، مما يتطلب شد ازر القاضي، ولكن ليس على الطريقة الشعبوية التي يمكن ان تشوه وتؤذي القضاء.
والواقع فان شياطين السلطة بشقيها الميليشيوي و المافياوي وامتداداتها في المصرف المركزي والمصارف التجارية وفي الكارتيلات تتفوق في ابتداع وسائل تدفيع المودعين وغالبية اللبنانيين، الثمن الاكبر للخسائر الناتجة عن العجز والفساد والحوكمة الرديئة، وعن تثبيت الليرة، وتترصد لتبديد ما تبقى من اموال وصولا للذهب .
علما والحقيقة تقال ان سياسة تثبيت الليرة مقابل الدولار، ساعدت معظم اللبنانيين من الطبقات الشعبية والوسطى ولسنوات، على اتباع نمط حياة متقدم وعلى حساب الفئات الاكثر غنى، ما يضعها عمليا في خانة العدالة الاجتماعية المقنعة، قبل ان تتضاعف كلفتها بسبب انهيار السيادة وتفاقم الازمات وصولا للقرار الكارثي بعدم دفع اليورو بوند حتى دون soft landing.
هذه السلطة التي صرفت وبددت الاموال تضغط على مصرف لبنان الذي يضغط بدوره على المصارف والتي تضغط على المودعين، مخترعة شتى الاساليب التي تحول المصارف العملاقة الى كونتوارات ودكاكين. علما ان السكاكين القذرة ستصل للاسف الى رقاب موظفي المصارف.
لناخذ التعميم ١٥٨ على سبيل المثال لا الحصر، والذي لا اشك للحظة انه محصلة حوارات وصراعات بين اطراف السلطة والمصرف المركزي والمصارف، وان كان من اخراج رياض سلامة.
رغم اننا سجلنا ايجابية فكرة تحرير جزء من الودائع وتحويلها لفريش دولار، الا ان تفاصيل التعميم تبدو شيطانية، فضلا عن ان المصارف تعمل على اضافة نكهة شيطانية خاصة بها، عبر دفع المودع على توقيع اتفاق مفخخ.
فهل يمكن لتعميم ان يقسم المودعين وهم متساوون في الدستور، ولماذا اختار سلامة ٣١-١٠-١٩؟ هل ليعاقب من وثق به وبتطميناته وحافظ على العملة الوطنية طوال الفترة السابقة، ام ليعاقب المنتفضين بعد ان استطاع peps في تلك الايام التي اغلقت فيه فروع البنوك من انجاز تحويلاتهم السوداء، بينما كان المودعون العاديون يخضعون لصنوف الاذلال؟ولماذا سمح ببيع العملة بعد هذا التاريخ؟ هل لتمتص البنوك الودائع وتدفنها دولارات لسنوات؛ دعك من هذا المصرفي المتفذلك الذي يمنن المودعين المستثنين بانهم حموا ودائعهم! علما ان انهيار الليرة تسارع فعليا بعد قرار عدم التسديد في ١١-٣-٢٠. فلماذا لم يختر هذا التاريخ؟ ولماذا يعاقب من نقل وديعة مستحقة من مصرف الى اخر قبل ٣١-٣-٢١، خصوصا انه لم يكن هناك فائدة ترتجى منها؟ ثم الا يلاحظ السيد سلامة وباقي انصاف الالهة تأثير تعميمه على سعر الصرف منذ صدوره، مما يجعل اللبنانيين يدفعون ثمن التعميم مضاعفا قبل ان يجف حبره؟
واخيرا وليس اخرا، هل اصبح المودعون ارقاما ١٥١، ١٥٤ و١٥٨، وما رقم مودعي الليرة، وهل ينتظر باقي اللبنانيين ارقامهم في البطاقة الشبح؟
هذا غيض من فيض. فاما آن الاوان لخلق جبهة تنسيق موسعة تعمل على التأثير في قرارات الحياة المعيشية ومواجهة الانهيار وتداعياته عوض ان تبقى المواجهة مبعثرة ودون فعالية، وحتى شعبوية احيانا. فماذا تنفع التحاليل والمناظرات ومشاريع القوانين اذا لم تتحول لخطط عمل منسقة تعمل على جذب الانياب الشبابية الغاضبة ويحسب لها الحساب في اوكار السلطة الغاشمة.
لقد ترك الصراع على الحكومة ليستفيد منه حزب الله والتيار العوني، ويترك الصراع عمليا حول فلس الارملة ليستنزفه الطرف القوي المستمر في ادارة الانهيار نحو القعر. فهل ننتبه ونتواضع ونتصرف كام الصبي، ونتصدى لشياطين السلطة بانشاء جبهة تنسيق المعارضات حول الاهداف المتقاطعة.
طرابلس في 12-7-٢١
تحليل مسهب وعقلاني ناقش كل المشاكل العالقة وناقشها بموضوعية بعيدة عن المواقف الشخصية للكاتب والشعارات الحماسية ، لكن نقصه اقتراح حلولا موآتية التي تستلزم لطبيعة الشائكة لتلك المشاكل الكثير من الوقت والجهد ورجال اصحاب ثقة واختصاص
مقالة قيمة جامعة تحليلها صحيح ومنطققي جديرة بالفرأئة