شكلت تعاميم مصرف لبنان نوعا من الميني كابيتال الكونترول بعد ان تقاعست السلطة بمستوياتها كافة عن التصدي للازمة المالية والنقدية والمصرفية التي عصفت بالبلد.
ورغم ان ارهاصاتها اطلت في صيف ٢٠١٩، فقد انفجرت الازمة مع بداية انتفاضة ١٧ تشرين اول ٢٠١٩. الا ان الانهيار المتسارع لقيمة العملة اللبنانية بدأ فعليا بعد تمنع حكومة دياب ومن ورائها عن دفع اليورو بوند، وهو ما عنى عمليا إعلان افلاس البلد ووضعه عاريا امام الجميع.
وقد تبع ذلك توقف البنوك بالكامل عن دفع الدولار للمودعين بعد فترة من الدفع ضمن سقوف متدحرجة، كما أوقف التحويل للمودعين العاديين ولاولادهم وعائلاتهم في الخارج.
وترافق ذلك مع اختلاف في تقدير الخسائر اولا وطريقة توزيعها وتحملها ثانيا. وهو ما انعكس على تقاذف المسؤوليات بين ثلاثي المصرف المركزي والمصارف والسلطة (او السلطات، لان الدولة تشظت لسلطات بعضها يحكم بفائض القوة المسلحة وبعضها بفائض الفجور والذمية وبعضها يبتدع فائضا من وسائل التهرب من المسؤولية). كما انعكس على ادارة ومن ثم توقف التفاوض المرتبك مع صندوق النقد الدولي.
لم ينجز قانون كابيتال،وتحولت بعبدا والسراي وساحة النجمة (ومبنى الاونيسكو) الى مسارح هزلية لادارة الكذب والنفاق، مستفيدين من تراجع الضغط الشعبي على وقع القمع وسلبطة الميليشيا وجائحة كورونا، والعجز عن تعيين سقف سياسي وسيادي واضح للانتفاضة يقي المنتفضين من جائحة الشخصانية وبيع الاوهام. ولا ننسى طبعا مطارحات بعض الثورجيين واليسارويين وتنظيرهم بضرورة عدم دفع اليوروبوند لدرء “المجاعة القادمة”. وهذا ما استفادت منه قوى السلطة لادارة ما سمي بالدعم الكاذب، والذي ادى لهدر ونهب وتهريب المليارات، عوض اقرار قانون كابيتال كونترول يمهد لتفاوض جدي مع البنك الدولي واصلاحات بنيوية ضرورية.
امام تمنع المسؤولين عن انجاز كابيتال كونترول، اصبح حاكم البنك المركزي مركز الجذب واصدار القرارات المتعلقة بالمال والنقد و المصارف وحتى بمتطلبات الحياة اليومية، بالضغط والخضوع او التنسيق مع مواقع السلطات المختلفة، وخصوصا ثنائي حارة حريك/ بعبدا وجمعية المصارف التي تحولت الى عصبة شبه سرية من المتعاضدين لتخفيف الخسائر باي طريقة ممكنة والشاطر بشطارته.
المودع العادي اصبح مكشوفا وحتى عاريا، ما جعله هدف امتصاص هذه الخسائر .
اولى قرارات الحاكم كانت في موضوع الفريش دولار وهو الذي حاول من خلاله ايجاد جسر معلق لدرء الانهيار الكامل. وهذا الاجراء فتح الباب لما سمي باللولار وتجارة الشيكات والأسواق السوداء التي تضاعفت مع الدعم الكاذب، خصوصا بعد صدور التعميم ١٥١ الذي سعر صرف دولار البنوك للمودعين بـ ٣٩٠٠ في وقت كان قد تخطى 6000 في السوق الموازي.
حول هذا القرار البعض الى تجار ومرابين بتواطؤ ومشاركة معظم البنوك وحتى المصرف المركزي والمافيات المدعومة من الميليشيا المسلحة و قوى السلطة عموما، مما ساهم برفع سعر الصرف الموازي وادى لافقار مزيد من اللبنانيين، وصولا لإذلالهم في تأمين البنزين والكهرباء والغاز والدواء والغذاء، وصولا للرغيف.
فالتعميم ١٥١ هو قرار واضح بفرض هيركات متصاعد، وصولا لـ ٨٥٪ (دون ان ننسى « الحلاقة عالناشف » لمودعي الليرة وموطني الرواتب) على المودعين العاديين الذين لجأوا له اما لحاجة او لفقدان الثقة بالمصارف والدولة. والنتيجة شطب خسائر بالمليارات للمصارف، علما ان المصاري المدفوعة هي طباعة بمعظمها، ما يعني تضخما في الكتلة النقدية وتراجعا في سعر الصرف وارتفاعا في الاسعار.
لن نغوص في التعاميم التي لا ترتبط بالمودعين مباشرة، خصوصا التعميم ١٥٤ الذي لم نعرف من التزمه من المصارف، لأنه لا شفافية فعلية في مصرف لبنان. ربما يريد الحاكم حماية بعض المصارف وتخفيف الهلع. ولكن لم نعرف ايضا من التزم به من المحولين الاقوياء peps وغيرهم، وكأننا امام طاقية اخفاء يتناوب مدمنو الكذب على لبسها. فبينما كان المسؤولون يتبارون بالصراخ حول اولوية حماية اموال المودعين في بداية الازمة، ها هم ينتقلون للحديث عن مشاريع وهمية لحماية مستقبلية لما قد يتبقى من هذه الاموال.
التعميم ١٥١
لن ندخل في التصريحات الجوفاء لرئيس وأعضاء اللجنة المالية والتي استبقت تجديد التعميم على سعر ٣٩٠0، اي هيركات ٨٥٪. نشير فقط الى الحقيقة الساطعة ردا على ادعاء الحاكم وباقي المسؤولين بالخوف من تضخم الكتلة النقدية، بان كثر اقترحوا أن تدفع البنوك نفس المبلغ الشهري للمودع اي ٣،٩٠٠،٠٠٠ ( سقف ١٠٠٠$ لمعظم البنوك) ولكن بشطب ما يعادله من الدولارات في السوق الموازي وليس ١٠٠٠$، فيحافظ على الكتلة النقدية دون ان يخضع المودعون لهيركات .
والسؤال هو: اين ذهب المزايدون في لجنة المال والمجلس؟ اين ذهب مدعو حماية المودعين؟ بل اين ذهب المعارضون من كل الضفاف، المهووسون اما بنسج لوائح المنازلات الانتخابية، او بالبحث عن غودو ما، ينقذهم من غطرسة وسيطرة حزب الله ورعاته الايرانيين؟
التعميم ١٥٨
هو التعميم الاشهر لانه فتح الباب للمرة الاولى لحصول المودعين على جزء من دولاراتهم « كاش » منذ تنشيف الدولار بعد التخلف عن دفع اليوروبوند. لذا فهو يجتذب الكثير من الملاحظات، خصوصا ان مخيلة الشياطين ساهمت في صياغته، وفي تعديلاته.
اولا: ان تحديد ٣١/١٠/٢٠١٩ كيوم فاصل بين قيمتين للدولار هو قرار غريب ومستهجن وغير دستوري.
في مقابلة مطولة مع الحاكم، برر سعادته اعتماد هذا التاريخ، بان ما قبله لا يمكن معرفة الدولارات المحولة من الليرة عن غيرها، و قال ان الدولارات بعد هذا التاريخ هي دولارات محولة من الليرة.
هذا الكلام هو هذيان لان لبنان اقتصاده حر وله قانون نقد وتسليف والتحويل يتم بموافقة مصرف لبنان، الذي اوقف التحويل بعد التعميم ١٥٠ الصادر في نيسان ٢٠٢٠.
الهدف هو تقليص المستفيدين ومعاقبة من وثق بالليرة وبسلامة وحول بعد ٣١/١٠/٢٠١٩.
علما ان اختيار هذا التاريخ فيه اساءة للشعب الذي انتفض، خصوصا ان فترة اغلاق البنوك هي فترة سوداء ارتكبت فيه معظم عمليات التحويل لـpeps والنافذين واصحاب المصارف.
ثانيا: اجبرت المصارف (ومن وراءهم من جماعة السلطة) الحاكم على تعديل التعميم لمزيد من التنزيلات على الرصيد المستفيد، بما فيها حسم ما قبضوه كاش وببطاقة الدولار قبل توقيفها وسرقة بعضها، وهذا كان له اثر كبير على المودعين الصغار، ما يدحض كلام الحاكم حول ان معظمهم سيحصل على كامل امواله خلال سنة.
ثالثا: لنفترض جدلا ان ٣١/١٠/٢٠١٩ هو معيار نقدي مقبول لتطبيق ١٥٨، فلماذا يستثنى منه من حول حسابا له الى مصرف اخر بعد هذا التاريخ، او حول حسابا له الى قريب (ابن او ابنة مثلا او زوجة او..) ضمن نفس البنك.
فهل نقل ١٠٠$ من جيب لآخر او من بنطلون لآخر تغير قيمتها! هل رياض سلامة ساحر ام يضع طاقية اخفاء ام فرعون ام ماذا؟ والتشبيه ينطبق بالطبع على اعضاء المجلس المركزي وولاتهم من فراعنة وشياطين السلطة الجائرة.
ما يحصل هو عمل شيطاني، خصوصا انه قد يصبح قاعدة وبالتالي يصبح تاريخ ٣١/١٠/٢٠١٩ حاجزا شيطانيا دائما. وهذا ما بدأنا نسمعه مؤخرا من اركان السلطة بتحويل الدولار لليرة اي الى اوراق مطبوعة، وهو ما سيقضي نهائيا على امكانية اي نهوض اقتصادي لاحق.
والمستهجن ان القسم المدفوع بالليرة لا يستطيع المستفيد قبضه دائما، لانه يفيض عن السقف المحدد في البنك، والذي يكون احيانا اقل من راتب موطن، فهل يعقل؟
رابعا: كثر الحديث في النصف الثاني من ايلول عن التعديلات على التعميمين، وهنا ساشير الى تعديلين في ١٥٨( بقي ١٥١ إجراميا على حاله):
أ- التعديل الاول والاساسي استند على نظرية “استمرار الحسابات” وهو ما اراح البعض في الوهلة الاولى، خصوصا ان احد اصحاب البنوك قال للزميل موريس متى في برنامج تلفزيوني أن قضية الحسابات المحولة بعد ٣١/١٠/٢٠١٩ والتي سميت زورا حسابات جديدة في التعميم 158 ستُحل. كما ان مقال موريس متى في النهار عن التعميم المعدل جاء في هذا السياق (الجمعة في ١/١٠/٢٠٢١)(، حتى ان مدراء فروع البنوك فهموا ان الحساب المحول بعد ٣١/١٠/٢٠١٩ تنطبق عليه فكرة استمرارية الحسابات.
وبعد اسبوع (وربما بعد هبة المصارف على ما تواتر لنا من الداخل، خضع لهم سلامة كالعادة على حساب المودعين) تبين ان التعديل يستفيد منه فقط ورثة او موصى بهم، او يحل بعض الاشكالات في الحسابات المشتركة.
ربما كان يجب على المودع ان ينتحر كي يستفيد الوريث او الوصي.
ب: التعديل الثاني
السماح باستعمال التعميم ١٥١ في الحسابات في البنوك الاخرى لمطبقي التعميم ١٥٨ اي السماح بمتابعة هيركات ٨٥٪ كي يشطب مزيدا من الودائع. وهو ما يعني دس السم في العسل، لان الهدف الحقيقي هو متابعة شطب الودائع مقابل طباعة مزيد من الليرات.
والسؤال المشروع هو: لماذا لا يحرر مزيد من التوظيفات الالزامية وتعطى لاصحابها بالدولار، عوض طبع العملة وعوض استنزاف هذه الاموال مداورة تحت ضغط السلطة وتهديداتها الإرهابية أو القضائية؟
ويبدو ان المشكلة هي في عدم تحول المودعين والمعارضات المختلفة والنقابات، خصوصا مع تقاعس نقابتي المحامين والقضاء، الى قوة ضغط موجهة ومنسقة تخيف هؤلاء الشياطين والفراعنة والسحرة. وهذا ينطبق على جميع المرافق والقطاعات والقضايا الأساسية التي يعاني منها الشعب المقهور. فهل نصحو ونواجه؟ ام نكتفي بالاستعداد لامهات المعارك التي لن تنجح دون مراكمة بعض الانجازات في المواجهات المتدرجة التي تعيد الناس الى الشوارع والساحات، لأن ضرس العقل غير كاف دون أنياب.
طرابلس في 15\11\2021