بعد نهار طويل وليلة اطول من حبس الانفاس المترافق مع زخات الرصاص الموتر من زوايا متعددة في الفيحاء الطرابلسية، اكتملت نتيجة دائرة الشمال الثانية باعلان فوز د. رامي فنج من “لائحة انتفض” والسقوط المدوي للسيد فيصل كرامي وريث الاقطاع السياسي الطرابلسي الابرز واحد اعمدة دائرة الممانعة، في المدينة التي عانت الامرين من بطش وارهاب وثقل النظام السوري، ومن تداعيات السيطرة السياسية الاجمالية لحزب الله وراعيه الايراني في البلد، خصوصا بعد تسارع وتيرة التدحرج الانهياري نحو القعر الجهنمي منذ ان فرض حزب الله انتخاب الجنرال عون رئيسا للجمهورية.
ومع ان توسع رقعة الفقر والبؤس في المدينة ظهرت على ثوب الانتخابات بأشكال شتى قبل التصويت وخلاله وفي النتائج الاولية، كما ان توسع الرقعة السيادية بالوانها المختلفة، ظهرت نتائجها في اللوائح مبكرا، خصوصا بفوز ثلاثي طرابلسي في لائحة اللواء ريفي مع فوز كبير له وفوز مريح ومعبر لحليفه القواتي ايلي خوري، الا ان معظم ناشطي ونخب المجتمع المدني ذو النكهة “الثورية التشرينية” رؤوا في فوز د. فنج كوة الاختراق الرئيسية في الجسم البرلماني والسياسي الطرابلسي. وقد جعلهم هذا الفوز يلتحقون بالكرنفال التلفزيوني الصاخب الذي اداره مارسيل غانم، والذي كان سيبدو اقل تنوعا واثارة، فيما لو افتقدت خلطته نكهة ايقونة انتفاضة الغضب الطرابلسي.
ومع ان لائحة الغاضبين في بيئة “تيار المستقبل” من قرار عزوف الحريري عن المشاركة في الانتخابات، حصلت على فوزين في المنية والضنية، الا ان نتائجها الطرابلسية كانت مخيبة. خصوصا مع السقوط المدوي لرئيسها د. مصطفي علوش صاحب الخلفية الفكرية اليسارية وذي النكهة السيادية البارزة، والتي حافظ عليها حتى خلال مرحلة “ربط النزاع” مع الحزب الالهي. علما ان د. علوش شارك في انطلاقة المجلس الوطني لرفع الاحتلال الايراني عن لبنان. والشيء بالشيء يذكر، فقد تعثر جميع اعضاء المجلس القلائل المرشحين في الوصول للبرلمان الجديد بما فيهم المرشح السيادي المستقل والأبرز د. فارس سعيد، رغم حصول لائحته على ١١ الف صوت. ولا يقلل من دلالات هذا التعثر، ان الترشيح كان فرديا ولم يتم باسم المجلس، علما ان بعضهم انضوى في لوائح متقابلة في نفس الدائرة.
ليس جديدا اتكاء بعض النخب على مرتكزات المجتمع المدني الذي باتت عباءته تشكل حاضنة لشتى الفئات والهيئات والمجموعات والافراد التي ترغب في العمل العام (او الخدمة العامة public service) الاجتماعي والمدني وحتى السياسي، بما فيهم اصحاب السوابق اليسارية الذين فقدوا بعض التوازن مع التحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية وتداعياتها التنظيمية في العمل السياسي المباشر وفي العمل الحزبي والنقابي والنشاط النضالي المنظم عموما.
واذا كانت هذه الظاهرة قوية في لبنان وفي العالم العربي الذي شهدت مجتمعاته المدنية انتفاضات ربيعية عارمة، فانها تكاد تكون عالمية، خصوصا ان التحولات الجيو سياسية والعلم/اقتصادية تعصف بالبشرية جمعاء، وتطرح حتى على المجتمعات المتقدمة تحديات سياسية واقتصادية وامنية بنيوية. وها هي الغزوة الروسية لاوكرانيا ترمي بثقلها وتحدياتها على اوروبا واميركا والعالم اجمع.
وفي لبنان المترنح من ثقل لعنة الموقع، وقد حولته على مدى نصف قرن من الحروب والاحتلالات والنزاعات والخلافات القبلية، من مرتبة سويسرا الشرق على مبالغاتها، الى مرتبة مشارف الانهيار على حقيقتها، بدأ يظهر ضوء جديد في النفق، بعد ان خفت الضوء الاذاري. فكيف لا يفرح القلقون واليائسون من فسحة الامل التي صنعها اختراق بعض الناشطين المدنيين العابرين للطوائف والمناطق لبرلمان الشعب، إذ سيؤدي لهم حرسه التحية بعد ان مارست ميليشيا الثنائي المسلح والسلطة عموما، القمع والسلبطة والتوحش ضد المتظاهرين، خصوصا في مظاهرة الادانة والغضب في اعقاب جريمة تفجير المرفأ المروعة، حيث طالت مشانق المتظاهرين الرمزية اعناق السلطة الفعلية المستندة على فائض القوة وذمية مار مخايل.
لا نريد الاستفاضة في تحليل واقع وادبيات واشكاليات المجتمع المدني، الا اننا نشير الى ان حجم الالتباس بين السياسي والمدني دفعت منسوب المراهنة على التغيير الى مستويات مرتفعة، خصوصا بعد تسجيل اختراقات غير مسبوقة في العملية الانتخابية، حتى ان البعض يكاد يظن اننا امام حركة ثورية تغييرية بدأت تقضم المؤسسة الدستورية الام في سياق عملية ديمقراطية شبه طبيعية وفي بلد طبيعي.
لن نخفف من حجم وفرادة الحدث الانتخابي، ولكن يجب وضعه في سياقه الصحيح، خصوصا ان اكثرية اللبنانيين يرون ان البلد واقع تحت الاحتلال الايراني وان بواسطة فئة لبنانية. وهذا ما يجعل الأزمة السيادية اكثر تعقيدا، كما يتفرع منها ازمات سياسية واقتصادية ونقدية واخطار كيانية تطال وحدة اللبنانيين وعيشهم الواحد، حيث ان هواجس البعض بدأت تنعش بعض الطروحات الانطوائية والفئوية تحت مسميات مختلفة، بينما يلوح ثنائي فائض القوة والقابض على الدويلة الفئوية بفرض شروطه في ادارة بقايا الدولة او تعطيلها بعد خسارته الأكثرية النيابية.
لا شك بأن النفس السيادي في الدوائر المسيحية ساهم في تعزيز وضع القوات اللبنانية والكتائب وبعض الشخصيات المستقلة والمدنية على حساب التيار العوني والمردة والحزب القومي الذي تبخر نيابيا، ولكن النفس التغييري المدني كان تأثيره ضعيفا في هذه الدوائر، ما جعل المعركة تأخد طابعا مسيحيا وحتى مارونيا الى حد كبير. ومع ان التيار الذمي عوقب مسيحيا، الا ان خسارته لم تكن بحجم افعاله الشيطانية، ما يؤشر الى ان جانبا من الصراع القبلي الشخصاني الطائفي النكهة ما زال مفتوحا في البيئة المسيحية، خصوصا على ابواب معركة الرئاسة.
وكما انه لا يمكن التقليل من اهمية ورمزية الخرق التغييري في الجنوب، خصوصا ان المرشحين الخاسرين هما رمزان بغيضان سياسيا ومصرفيا، الا ان قبضة الثنائي على الطائفة الشيعية لم تهتز كثيرا، علما ان اللائحة المخترقة خففت كثيرا من اللهجة السيادية في محاولة لتفادي غضب الحزب.
اما النجاح الرائع لثلاثة من لائحة التغيير في الشوف عاليه، فقد حصل في اتون المواجهة الجنبلاطية للحشد الممانع، ولم يؤثر كثيرا على الخصوصية الدرزية التي ادار معركتها بنجاح البيك الدرزي في اكثر من دائرة، ومع ذلك فقد فتح نجاح الثلاثي آفاقا مدنية مضيئة في الجبل.
في قراءة سابقة لعزوف سعد الحريري وتيار المستقبل، قاربنا الجانب الملان من كوب العزوف وسقوط اكذوبة ربط النزاع الاشكالي. وهو ما ظهر جليا في نجاح كوكبة بارزة من مرشحي المجتمع المدني الناشطين في انتفاضة تشرين، والذين لا يضيرهم اطلاقا الحملة المسيسة من بعض المواقع والمنابر، على خلفية قضايا مدنية مهمة ولكن غير راهنة. ومع ذلك فان الجانب الفارغ من الكوب ظهر أيضا، فقد فشل رئيسي لائحتي التمرد المستقبلي في بيروت وطرابلس في اجتياز العتبة، بينما تمكن بعض الانتهازيين من الوصول للمجلس على خلفية تراجع المشاركة السنية وتراجع المشاركة الاجمالية عموما(٤١٪)، كما عزز الأحباش حضورهم النيابي رغم سقوط معظم رموز النظام السوري. ورغم نجاح بعض الشخصيات السيادية والمستقلة، الا انه لا رابط صرة سياسي واضح بين الناجحين، خصوصا في طرابلس وبيروت، ما سيجعل الساحة السنية تفتقد لعامل توازن مهم بخلاف الطوائف الاساسية الأخرى. وسيكون واهما من يعتقد ان التغيير الديمقراطي العابر ممكن التحقق في رقعة واحدة من النسيج المجتمعي اللبناني المتنوع.
والارتباك السني سيؤثر على رئاسة الحكومة أيضا، فاي رئيس مكلف سيكون مكشوفا وربما ممانعا، الا اذا كان يعبر عن دعم تكتل وطني واسع او هيئة تنسيق سيادي اصلاحي تغييري مدني عابر. وهذا هو جوهر قضية المواجهة التي تغيرت مشهديتها السياسية دون ان تتغير عناوينها السيادية والاصلاحية.
دعا احد الاعلاميين المخضرمين والمحترمين نواب الانتفاضة الى الاستفادة من خبرة بعض النخب ذات السوابق النضالية. وانطلقت دعوته من حجم التحديات الكبيرة والمعقدة التي تواجه هؤلاء النواب وحجم الرهان الذي يضعه عليهم اللبنانيون الذين تحولت تفاصيل حياتهم اليومية الى مسلسل من العذاب والذل والقهر، وقد دخل مرحلة جديدة من الانهيارات بعد الانتخابات على ضوء الفجور الممانع وان بقفازات ناعمة.
من الطبيعي ان تعمل المجموعة التشرينية على ابراز شخصيتها المستقلة اولا واساسا، رغم التلاوين والمقاربات المختلفة بالنسبة لقضايا الاحتلال والسيادة وتفكك مرتكزات البلد وميزاته المتنوعة. على ان يبدأ الحوار البرلماني مع الشخصيات والقوى المستقلة وحتى مع الاحزاب الطائفية ذات الطابع السيادي، لاكتشاف المساحات المشتركة وسبل التعاون لوقف انهيار الدولة وربما احتضارها بفعل المطرقة الممانعة. لذا ندعو للتمسك باتفاق الطائف الذي بدأ يفقد الاهتمام ضمن البيئتين الشيعية والمسيحية، في مقابل تفاقم المظلومية في البيئة السنية. علما ان الدستور وقرارات الشرعيتين العربية والدولية هم سلاح الذين لا سلاح لهم.
وعلى هذا الحوار كي ينجح ان يتمدد خارج المجلس، خصوصا مع القوى السيادية والديمقراطية المستقلة التي ظلت امينة للحظة الاذارية التي اضاعتها المماحكات والمصالح السلطوية، وبرودة المجتمع الدولي ازاء التوحش الايراني في المنطقة.
واذا كنا نضمر تلاقي اللحظتين الاذارية والتشرينية اللتين جذبتا الملايين الى ميادين المواجهة السيادية والسياسية والاجتماعية، فذلك لاننا نأمل ان يشكل الاختراق المدني للمجلس محفزا لاعادة الاعتبار للدور الجماهيري المباشر في مواجهة القهر الاجتماعي الذي تمارسه السلطة المحمية بفائض القوة الفئوية على المواطنين العزل،
و الذين باتوا منسحقين بخطط تعافي كاذب وتعاميم عشوائية بين مطرقة السلطة الفاسدة وسندان المصارف الفاجرة. فضلا عن المهربين والمضاربين ومتصيدي الازمات المحميين، اكانوا تجارا ام فجارا. ويخطئ من يعتقد ان على الناس المقهورة ان تتابع انتظار امهات المعارك في البرلمان وخارجه على اهميتها، بينما يجري سرقتها واذلالها يوميا في المصارف وفي جميع مرافق و مناحي الحياة البديهية . لذا نأمل ان تتوافق تنسيق المواجهة البرلمانية بابعادها الدستورية المختلفة، منعا للممانعة من تعويض خسارتهم الاكثرية و درء لفراغ متربص، بموازاة التصدي التفصيلي لمكامن الاوجاع اليومية ومحارق الودائع والاعصاب والآمال، ولم يعد من ضرورة لتعداد الاوجاع والمحارق، فهي تكمن في كل مرفق وفي كل بيت وفي كل شارع وفي كل حارة وروائحها تخنق الانفاس.
في هذا المقال سرد دقيق وواقعي لحال البلد المتهالك والذي يتنفس انفاسه الأخير ونحن ذاهبون إلى المجهول الأسود المفتوح على كل الاحتمالات تحلل كامل لمؤاسسات الدولة غياب كامل لخدمات الدولة تفلت أمني خطير ونحن نرا الان مظاهر هذا التفلت بوضوح باختصار وضع سوداوي. حما الله لبنان واللبنانيين من غباء طبقة حاكمة سيلعنها التاريخ.