منذ أن كثّف الكواكبي معالم الاستبداد السياسي في جملٍ خالدة، وقد مضى على كتابه الشهير “طبائع الاستبداد” أكثر من مئة عام، لم يتغيّر كثير في واقعنا المُعاش، سواء بالنسبة إلى طبيعة النظم السياسية أو إلى سمات البنية الاجتماعية المتفاعلة معها، حيث عملتا معًا على تغذية دورة الاستبداد طوال هذه الفترة، من دون أن يحدث تحوّل يُعتدُّ به باتجاه الديمقراطية والحكم والرشيد.
وما يحدث أحيانًا من تناقض بين الاستبدادَين، السياسي في القمة والاجتماعي – الديني في القاع، ليس سوى تناقض المتشابهات، كلونين متباينين للماهية ذاتها، ما يسهل عودة المياه إلى مجاريها بينهما بعد كل صدام، وهذا يختلف عن التناقضات البنيوية الأخرى، كالصراعات الطبقية والقومية، التي قد تفضي إلى مزيد من التغيرات باتجاه التحرر والتقدم.
لا يهطل الاستبداد من السماء، وهو مُنتج للمجتمع وعلاقاته وعاداته وتقاليده وإرثه السياسي، إذ لا يمكن للاستبداد السياسي المحض الصمود طويلًا، ما لم يجد له مرتكزات في الواقع تمدّه وترفده، وخاصة عند انطلاقته، وإلى أن يتمكن من إنتاج وسائل تمكين استبداده الخاصة، وأهمّها أجهزة القمع.
من هنا، نجد أن الانقلابات العسكرية التي حصلت في سورية بعد الجلاء لم تستمر سوى أشهرٍ أو سنوات قليلة؛ لأنها كانت مجرد ردّات أفعال لم تستثمر في بنية المجتمع وتؤسس لركائز فيها، وظلت في إطار الصراع بين النُخب. فقد جاء انقلاب حسني الزعيم (1949) احتجاجًا على، أو بحجة، فشل السياسيين في الإعداد لحرب 1948، وهزيمة العسكريين التي أعقبت ذلك، أو أنها كانت ردة فعل استباقية على إجراءات مرتقبة، كانت حكومة الدواليبي (حزب الشعب) تعتزم القيام بها ضد بعض ضباط الجيش، كما في انقلاب الشيشكلي (1951).
في المقابل، نجح الاستبداد بعد عام 1970، بسبب استثماره في البيئات التقليدية ومغازلتها والتحالف مع ممثليها، وبالاستناد أيضًا إلى التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي جاء بها عهد الوحدة وانقلاب حزب البعث من بعده. وبالرغم من الهزات والاهتزازات التي أصابت هذا التحالف، فإنه ما يزال صامدًا حتى الآن، ويجري تعزيزه باستمرار، ومثاله الأخير يتمثل بالصلاحيات المعطاة إلى وزارة الأوقاف على حساب المجتمع المدني. فالاستبداد، نظرًا لطبيعته الشمولية، يفضّل التعامل مع المجتمعات الأهلية، على حساب منظمات المجتمع المدني، التي تعمل على المستوى الوطني، كما يلجأ إلى الحدّ من الدور الرقابي بالغ الأهمية لهذه المنظمات في الدولة الحديثة.
في هذا المسعى، تمّت التضحية بالاتحاد النسائي البائس لصالح مجموعة نسائية دينية أكثر تنظيمًا وفاعليةً هي جماعة “القُبيسيات”، تعبيرًا عن “حسن النية” تجاه الحلفاء القدامى والمتجددين دومًا، ما دام تقييد أنشطتهم ممكنًا في الإطار الاجتماعي وحسب. لكن، ما بين الاتحاد النسائي وجماعة “القُبيسيات”، جرى تغييب حقوق النساء إلى أجل غير مسمّى.
وهكذا، لم يتمكن الاستبداد السياسي السوري الحديث من الثبات، بفعل قوة الخارج وعصبيات الداخل فحسب، إنما من خلال نجاحه أيضًا في مزاوجة الاستبداد السياسي مع العناصر الاستبدادية الكامنة والمتفشية في ثنايا المجتمع التقليدي، تاركًا لها حرية النمو وتجديد دورة حياتها، ولو مع تقليم أظفارها أحيانًا، وكان من الطبيعي أن يتم التركيز على الثقافة التقليدية للأغلبية المذهبية، وذلك لخطورة دورها في حال خروجها من القمقم.
فبالتمكُّن من مغازلة مكونات الثقافة التقليدية غير المتوافقة مع التغيير، يؤمن للإستبداد السياسي قوى احتياطية كامنة، يمكن استخدامها في كبح أي تغيير اجتماعي يتفق وشرعة حقوق الإنسان، الشرعة التي كثّفت ما راكمه نضال الشعوب من أجل الحرية عبر التاريخ، باعتبار أن هذه المكونات تمثل إحدى أهم الركائز من أجل استمرار هيمنته.
من جهة أخرى، تترافق المظالم الجماعية والفردية مع مختلف أشكال الاستبداد، ونظرًا لما يحوزه النظام السياسي المستبد من وسائل القوة، فإنّ المظالم الناتجة عنه تتفوق تدريجيًا على مظالم القوى المنبثقة عن المجتمع التقليدي، وتزيحها من الواجهة، فتدخل هذه الأخيرة في طور الكمون إلى أن تتمكن من التعبير عن نفسها في الوقت المناسب. من هنا، نجد أن المفاضلة بين هذين النوعين من المظالم محفوفة بالمخاطر، وهي كمية وليست كيفية؛ أي أنها تتعلق بدرجة الظلم وطبيعته فقط. لكن، وبحكم الميل الغريزي للتعاطف مع الضعيف، فإننا ندين ممارسات الظالم القوي كأولوية، ولا نعي أهمية رفض الظلم بحد ذاته، ونحن نتعاطف مع “الضحية” الحاملة لبذور الاستبداد أيضًا.
لقد ذهبنا بعيدًا، كقوى معارضة سورية، في التركيز على نقد البناء السياسي الفوقي، النقد الذي لا ينتج عنه تغيير حقيقي بالضرورة، باستثناء تبادل الرايات والأدوار، وأهملنا، في الوقت ذاته، نقد الواقع الاجتماعي كبنية مُنتجة للاستبداد. ثم ارتكبنا خطأً آخر حين سارعنا إلى قطف ثمار الحراك الشعبي عام 2011، غير مدركين لأهمية رعاية عملية التغيير المتضمَّنة فيه، وفي الاتجاه الذي يُفضي إلى طيّ مرحلة الاستبداد، فكان أن تلقينا تلك الصفعة التي أوشكت على إخراجنا من التاريخ، وسمحت لقوى انتهازية بملء الفراغ.
الآن، وإلى أن يحدث التغيير المنشود، فإن جهود السوريين المخلصين لقضيتهم يجب أن تتوجه إلى دعم وتفعيل وممارسة العمل المؤسساتي، والتعاون مع الدول الفاعلة في إطار الشرعية الدولية، على علّاتها، وهو ما يضيِّق الخناق على كل المعوقات الداخلية والخارجية. وفي خلفية كل ما سبق، نحتاج إلى إعمال النقد على المستويات كافة، وإلى الحوار الموضوعي والوطني خارج كل الاعتبارات الشخصية، وإلى المصارحة والمكاشفة من أجل تجاوز مختلف أنواع العوائق في الطريق لتحقيق هدفنا الوطني الجلل، وهو بناء سورية دولةً عصرية يعيش المواطنون فيها انتماءهم إليها، عملًا وحريةً وكرامة.
*كاتب سوري، دكتور في الطب، دكتوراه فلسفة في الطب، فُصل ومُنع من التعليم في الجامعات لأسباب سياسية، مؤلف ومترجم عدد من الكتب.