ادى مشروع قرار لوضع رسم على الواتس اب في ١٧ ت١ الماضي الى تحرك بضع مئات من الناشظين باتجاه السراي الحكومي. واصطدم المتظاهرون على جسر الرينغ (الذي سيصبح من الاماكن الاشهر في لبنان بالاعتصامات والمواجهات التي ستتحول لخطوط تماس بين المنتفضين وشبيحة امل وحزب الله، يفصل بينهما الجيش والقوى الامنية) بحرس الوزير شهيب الذين اطلقوا النار في الهواء لتسهيل مرور سيارة الوزير، الى صب الزيت على نار الغضب الشبابي، الذي سيتأجج لينتشر كالنار في الهشيم ويخرج مئات الوف اللبنانيين واللبنانيات في كل المناطق اللبنانية من بيوتهم نحو الشوارع والساحات.
وفي ايام قليلة تحول البلد الى مختبر تنشحن فيه كل عوامل القهر والاذلال المكبوتة، لتتحول الى طاقة شبابية هائلة تنزع عنها ثوب الاحباط وتصرخ هادرة بوجه السلطة السياسية “كلن يعني كلن” محملة اياها مسؤولية الانهيار السياسي والاقتصادي والمالي الذي وصلت له البلاد، والذي وضع اللبنانيين على مشارف الجوع والبؤس، بعد ان كان بلدهم يطلق عليه في ايام العز والازدهار لقب سويسرا الشرق.
هكذا انطلقت انتفاضة الغضب التي سترسم طريقا جديدا للشباب وللشابات ولعموم اللبنانيين المتعبين، وتعطيهم الامل بالتغيير الاجتماعي والفكري والسياسي وبالخروج من المحنة والاحباط واليأس، بعد ان توحدوا ونفضوا عنهم غبار الفئوية والمذهبية والمناطقية والتي لطالما اججتها الأحزاب الطائفية. ومع ان بيروت وطرابلس برزتا كجاذبتين رئيسيتين للحراكات الحاشدة، بيروت كعاصمة للانتفاضة وطرابلس ايقونتها، الا ان جميع المدن والبلدات الرئيسية ابتدعت ادوارا خاصة بها في الانتفاضة المجيدة.
هكذا تحولت ساحات المدن الرئيسية إلى عاميات ينصب فيها الخيم و يحج لها الناس من كل حدب وصوب، وتقام فيها النشاطات والحوارات والندوات التثقيفية، ويبتدع فيها اساليب نضالية لم يعهدها مناضلو الزمن الإيديولوجي رغم انه كان يلقب بالزمن الثوري الرومانسي.
وقد برزت ظاهرة قدوم اللبنانيين من الخارج للمشاركة في النشاطات والابداعات رغم انهم اقاموا نشاطات داعمة في المغتربات التي تمددت لها شراراة الانتفاضة.
وقد شهدت ساحتا رياض الصلح والشهداء حشودا كبيرة، واقيم فيهما فعاليات ونشاطات مميزة اظهرت قدرة الشباب اللبناني على النضال والابداع، خصوصا حين اعطوا نكهة خاصة للاستقلال في ذكراه واقاموا احتفالا جذابا ومميزا شارك فيه خليط متنوع يشبه النسيج اللبناني الجميل، بينما كان المسؤولون يهربون بميني احتفال في وزارة الدفاع، ما جعلنا نتذكر انتفاضة الاستقلال الثاني في ١٤ آذار ٢٠٠٥و التي اعقبت اغتيال الشهيد الحريري، حيث فاضت الساحتان بالملايين وامتدت الحشود الهادرة الى كل الشوارع المحيطة بوسط العاصمة النابض بلحظة لبنانية استثنائية.
وفاضت ساحة النور في طرابلس بعشرات الالوف، القادمين من جميع احياء المدينة، ومن زغزتا وعكار وعموم الشمال للمشاركة بفعاليات الساحة المتنوعة، كما جذبت وفودا كبيرة من ساحات صيدا وصور والنبطية وجل الديب والذوق وعاليه وبعلبك وبيروت، محاولين اكتشاف سحر العاصمة الشمالية التي جرى تنميطها كمعقل للتشدد والإنغلاق.
وفي خضم هذا المد الثوري الفريد والغير مسبوق، لم ينتبه الشباب المنتفض للخطر المتعدد الرؤوس على انتفاضتهم الوليدة، خصوصا من السيد نصرالله الذي حذرهم من اول الطريق، بان لهم سقفا لا يجب اختراقه، ملمحا بتهم التخوين والتعامل مع السفارات، ومقفلا الضاحية وكثير من مناطق الدويلة عن متابعة المشاركة.
فالانتفاضة بدلالاتها الكثيرة، وبعبورها للطوائف والمناطق شكلت خطرا على الطبقة السياسية كلها، بما فيها الثنائي الشيعي رغم فائض القوة، وثنائي “ذمية مار مخايل” التي شكلت غطاء لتمدد سيطرة حزب الله على البلد من جهة، ولاستباحة مؤسسات القطاع العام المتداعية من العونيين الجشعين ومن باقي اطراف السلطة من جهة ثانية، خصوصا بعد وصول العماد عون لرئاسة الجمهورية على فوهة بندقية حزب الله.
وللمفارقة الفاقعة الدلالة، فقد شهد اليوم الذي استقال فيه الرئيس الحريري كثمرة اولى للانتفاضة، عملا تأديبيا للناشطين في ساحة الحرية على يد ما سيعرف بـ »جماعة الخندق » او « جماعة الموبيلات » الذين أغاروا على الساحة في صباح هذا اليوم، حيث دمرت الخيم وضرب الناشطون والناشطات، على مرءى ومسمع من القوى الامنية في رسالة مزدوجة للانتفاضة وللحريري في آن، تظهر لمن الأمر في البلد، خصوصا ان وزيرة الداخلية وقائد قوى الأمن الداخلي المحسوبان على الحريري اعلنا مرارا واجب حماية المتظاهرين السلميين.
ورغم هوية المعتدين العارية، فإن معظم مجموعات الانتفاضة، وبتلاوينهم المختلفة، تابعوا سياسة النعامة بتحييد الموضوع السياسي الاساسي المتعلق بتحكم حزب الله بقوة السلاح و”بشرعية” البرلمان المتكون من قانون انتخابي مذهبي عكس تحالف اقليات ضمني ومعلن، كما عكس توازن قوى قائم بالسلاح في بلد يحتاج اساسا لقوة توازن يعكس تميزه وتنوعه ودوره الجيوبوليتكي الطبيعي كجسر بين الحضارات والتبادل الثقافي والتجاري. فهذا الدور اعطاه نفحة من جنة عدن، قبل ان تحوله الصراعات الاقليمية والدولية والحروب الاهلية والاجتياحات الاسرائيلية والاحتلالات المتتابعة وفساد وتبعية وطائفية الطبقة السياسية لجهنم صنعاء.
ومع اهمية تناول قضايا كالعلمانية والدولة المدنية والنطام السياسي، الا أن الطرق عليها من قبل البعض، ظهر وكأنه هروب الى الامام من قضايا السلاح والسيادة والاحتلال الايراني بالوكالة والتهديد الوجودي في زمن التحولات والصراعات الكبرى وأطماع مثلث التماسيح، اسرائيل وايران وتركيا في المنطقة العربية.
وقابله طروحات في الفدرالية تحت عناوين المركزية الموسعة واستسهال الحديث عن تغيير الدستور واتفاق الطائف، والذي يشكل في الوقع، سلاح اللبنانيين شبه الوحيد امام اهوال التغيير في المنطقة التي تعيش على صفائح متقلبة وامام سلاح حزب الله الفئوي والذي يخدم رعاة الحزب.
واذا اضفنا مواضيع الصراع الطبقي وحكم المصرف وما تبعه من تيطوء امام مصرف لبنان، نرى ان اختراق حزب الله لجسم الانتفاضة اصبح “تحصيل حاصل”، خصوصا ان عدم التمتع بالنفس الطويل من معظم المجموعات واستحضار “العنف الثوري” من بعض اليسارويين سهل اختراقهم ودفعهم باتجاه التصادم مع الجيش ورجال الامن والذين أفرطوا أحيانا في ممارسة القمع، كما على ممارسة اعمال عنف وتخريب ضد فروع المصارف، خصوصا في طرابلس وبيروت، حيث اختلط الموضوع الطبقي بالحقد المذهبي المدموغ بالشعارات والهتافات، واكتملت خلطة الحقد مع تصريحات باسيل النتنة والعفنة الاخيرة والتي تذكرنا بمن قال مرة بان وسط بيروت بكفيه تكنتان بنزين.
لقد استكانت الانتفاضة منذ تشكيل حكومة الباربي، وربما لعبت جائحة كورونا واقفال البلد دورا في ذلك، الا ان السبب الرئيسي يقع في عدم تحديد الخطر السياسي الاصلي المتمثل بسلاح الحزب.
وللأسف الشديد، فقد فشل اللبنانيون في تحويل جريمة المرفأ المروعة الى قوة دفع بوجه السيطرة الايرانية شبيهة بقوة الدفع التي خلقتها جريمة تفجير الحريري لإخراج القوات السورية المحتلة، رغم التغير في شعارات الانتفاضة لجهة تحميل حزب الله مع الآخرين مسؤولية الجريمة في مظاهرات الحساب، ورغم الالتفاف الشعبي العابر للمناطق والطوائف مع بيروت المدمرة وخصوصا مع الاحياء المسيحية الاكثر تدميرا.
وتتحمل الاحزاب الميني سيادية والتي ساهم اداؤها السياسي بانهاء وربما اندثار حركة ١٤ آذار، القسط الأكبر من المسؤولية في هذا الفشل، ذلك انها هادنت وخصعت لفائض القوة من جهة، وتقوقعت داخل شرنقة المذاهب وغاصت في المحاصصة والزبائنية والفساد وغيرها من مغانم السلطة من جهة أخرى. الا ان الموضوعية تقتضي القول ايضا ان نخب ١٤ آذار المستقلة لم تستطع تكوين قوة اعتراضية عابرة للطوائف توقف الانحدار المتمادي في ظل ميزان قوى إقليمي لصالح الممانعة، وفشل تجربة المجلس الوطني المستقل خير دليل.
لا نرغب بتوزيع الفشل او المحاسبة او حتى المقارنة باهم محطتين من محطات البلد في تاريخه الحديث. جل ما نبتغبه من القراءة السريعة هو التفتيش عن عناصر القوة التي ما زالت تمتلكها الإنتفاضة من اجل استكشاف وسائل التحرك التي تعيد الحشود السلمية إلى الساحات وتتقدم بالاهداف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي نحملها، خصوصا اذا صوبنا الهدف السياسي الاساسي المتمحور حول سيادة البلد وحول التمسك بالدستور والقرارات الدولية.
ويكفي ان نرى التناتش في موضوع التفاوض حول ترسيم الحدود البحرية بين الدولة الموازية القوية وحليفتها الدولة العونية الضعيفة، أما الدولة العميقة فهي غير مرئية، مما يعكس ضعف وارتباك الحركة السيادية عموما. علما ان الطرفين يقدمان عمليا اوراق حسن نية للراعي الاميركي بمواكبة ايرانية لصيقة، دعك من بيانات الثنائي الفارغة وبطولات باسيل الوهمية.
هذا في السياسة، اما في الاقتصاد والمال والاجتماع، فالنفاق سيد الموقف، اذ بعد ان
صموا اذاننا بنظريات حول الاقتصاد الريعي والاقتصاد المنتج، سواء من حزب الله وحلفائه سواء من بعض منظري الانتفاضة، تجري منذ تشكيل حكومة الواجهة اسوأ عملية ريعية تحت مسمى الدعم بالقليل الذي يملكه البنك المركزي، وصولا للمطالبة باستعمال الاحتياطي الالزامي، وهو ما تبقى للمودعين الذين بددت السلطة السياسية الفاسدة والمصارف الطامعة والعاجزة اموالهم وجنى عمرهم، مما سيشكل خطرا على ما تبقى من القطاع المصرفي، فضلا عن خسارة المودعين لفلس الارملة. علما ان قرار عدم دفع اليورو بوبد دون خطة تفاوض مسبقة مع الدائنين شكل طعنة غير مسبوقة في الموضوع المالي والمصرفي حيث انهارت الثقة وبدأ معها انهيار العملة الوطنية المتسارع.
والجميع يعرف ان الدعم لا يذهب للمحتاجين والفقراء فقط بل لجميع المقيمين، فضلا عن تلاعب بعض التجار الجشعين والتهريب المرعي في الاتجاهين، مما يجعلنا ندعم، على فقرنا، اقتصاد بلدين منهارين، وكان من الافضل ابتداع وسائل الدعم التي تحمي المحتاجين اجتماعيا وتوقف الهدر والتبديد.
اما تحرك الاتحاد العمالي فلا يعول عليه لانه اتحاد ممسوك واعيد احتوائه وتوجيهه بعد نفض الغبار عن رئيسه العائد، علما ان لطليس الاملي القابض على اتحاد السواقين الكلمة الاساسية.
وربما وجب التيطوء امام المصرف المركزي لتصليب موقف الحاكم في ترشيد الدعم بوجه حكومة الواجهة التي يريد رئيسها وبعض الوزراء توزيع اموال وهمية على الناس دون اي رؤية.
وبالعودة الى موضوع الذكرى، فإننا نأمل ان تشكل مناسبة لانطلاقة جديدة رغم الصعوبات المعيشية واخطار جائحة كورونا التي تتهدد اللبنانيين، خصوصا مع ازمة المستشفيات الخاصة والحكومية، وازمة الدواء والتي يفاقمها عجز الحكومة المستقيلة وعدم احساس أطراف السلطة السياسية الملتهين بمصالحهم ومصالح رعاتهم بالمواطنين المعذبين، رغم كارثة المرفأ التي حركت معظم دول العالم وفي مقدمها فرنسا، علما أن الرئيس ماكرون قال فيهم أكثر مما قاله مالك في الخمرة.
سبق ان قلنا، ان التمتع بالنفس الطويل هو الفضيلة الاساس في المواجهة الطويلة مع السلطة السياسية. فلن يسلم المتحكمون بها مفاتيح البلد “للثوار” على طبق من ذهب كما توهم بعض القادة الملهمين في البداية، خصوصا حين حيدوا موضوع السلاح على اساس انه مقاومة، وركزوا على إعادة تكوين السلطة بانتخابات مبكرة، ذلك أن أي انتخابات مبكرة أو متأخرة لن تغير الكثير بوجود فائض القوة، والأرجح لن يسمح لها أن تقوم أصلا إذا كانت ستغير بما يكفي. والأحرى ان ننتبه أن إعادة انتعاش الطرح المذهبي والفئوي واستحضار طروحات الفدرالية مواربة باسم المركزية الموسعة واستحضار طروحات الغلبة المغلفة بالدولة المدنية! سيشكل تحديا كبيرا أمام اعادة الإنطلاقة. ذلك أن إنتفاضة تشرين نهضت على رافعة شبابية غير طائفية وتباهت بأنها أنهت الحرب الأهلية، وشكلت أملا حقيقيا بالتغيير الاجتماعي، مما اعاد الحنين لليساريين الرومانسين ولبعض شرائح وبقايا انتفاضة 14 آذار المغدورة.
ورغم ما يمكن أن يثيره هذا الكلام من إحباط، إلا أنه يؤكد بان الصعوبات لن تقف أمام المصممين على استعادة الزخم، إذ لا خيار آخر للبنانيين سوى الخروج من الجحيم مهما كلف من تضحيات، مع القبول بالعمل التراكمي والمتدرج لكسب الوزن السياسي والقدرة على التأثير المتصاعد في الحياة السياسية، بما فيه التأثير في صراعات السلطة والمعارضة، وبالتالي ضرورة توجيه الضغط لتشكيل حكومة اختصاصيين ومستقلين لتنفيد البرنامج المتفق عليه مع ماكرون، والاستفادة من الاهتمام الفرنسي ولو بدا كرش مياه خفيفة على كتل من اللهيب، مع التأكيد على ضرورة اكتشاف الأهداف الموحدة للقوى الثائرة المتنوعة والمتعددة والتي يمكن أن تشكل الممر الآمن نحو برنامج موحد مع توحيد الإستراتيجية، نحو المواجهة السلمية الواسعة للاحتلال الايراني المقنع والتمسك بالطائف وبانتمائنا العربي الذي يشكل شبكة أمان لنا في عالم سريع التحول، كما التمسك بالحياد التلقائي ولكن الايجابي لجهة حفظ الحقوق العربية وفي مقدمها الحقوق الفلسطينية، حتى لا نصبح وجبة خفيفة على طاولة الشرهين الدوليين والمفجوعين الاقليميين حين يحين وقت الوليمة.
talalkhawaja8@gmail.com
طرابلس- لبنان