في اعتصام اقيم امام قصر العدل في طرابلس في اوائل اذار من اجل دعم استقلالية القضاء، صرخ احدهم وبصوت عال بعد ان وقف على مسافة خطابية من المعتصمين ان “أحد الحاضرين كان يجتمع بالامس مع بعض اركان السلطة”، مشيرا بالاسم لبعض النواب السابقين الذين حضروا اعلان المبادرة الوطنية، ومكملا انه “لا مكان له بين الثوار”.
وكان قد سبق “خطابه” طلب احد المشاركين في الاعتصام من احدهم مغادرة التجمع لنفس السبب، علما ان انتقادات أخرى ارسلت للبعض بالواتس اب. كادت هذه الحادثة التي تحولت لتلاسن ان تتطور الى عراك، لولا تدارك بعض الداعين للإعتصام، والمنتمين لشرائح نخبوية من المهن الحرة. ذلك انه من غير المعقول الخضوع للتهديد، لانه كان سيعني سيادة منطق سلبطة في طرابلس يحاكي السلبطة التي مارسها حزب الله واعوانه في الرينغ ووسط بيروت وفي معظم مناطق سيطرة الميليشيات. كما كان سيعمق من منطق الغائي متنامي في أوساط بعض الشباب الثائر، مما قد يهدد الواقع الانفتاحي والمتنوع الذي ساد في المدينة والذي جعل منها ايقونة الانتفاضة، جاذبا اليها الوفود المتدفقة من كل حدب وصوب ومحولا خيمها وبراحاتها الى مساحات حوارية وتثقيفية.
الواقع ان البعض، تحمس عفويا تأثرا بشعار “كلن يعني كلن”، وهو الشعار الذي سرى كالنار في الهشيم في جميع الساحات والشوارع والميادين التي شكلت مسرحا للمتفضين. الا ان آخرين كانوا يعبرون فعليا عن رفضهم للمنطلقات الاساسية التي استند عليها اعلان المبادرة، خصوصا انها اشارت بوضوح الى مسألتين اساسيتين هما قضية السيادة وسلاح حزب الله وارتباطه بايران، والى اتفاق الطائف باعتباره اساس وحدة اللبنانيين الذين دفعوا غاليا ثمنا لهذا الاتفاق.
كما ان بعض المجموعات الشمالية، عارضت هذه البنود الواردة في الاعلان، وضمت إلى جانب قوى يساروية ومتقاعدين عسكريين، بعضا من النخب الطرابلسية التي حاولت تصدر الساحة المنتفضة. والجدير ذكره ان لقاءات حصلت حول إعلان المبادرة كان هدفها اظهار تعارض بعض منطلقاتها مع “توجهات الثورة” والتي تركز على الفساد والهدر والاموال المنهوبة وما الى ذلك، وتهادن بالموضوع السيادي المتمثل بسيطرة حزب الله على مقدرات البلد بواسطة فائض القوة الفئوية والتي صنعت نتائج الانتخابات الرئاسية والنيابية.
هكذا نرى انه، ورغم ان المبادرة الوطنية ضمت عددا بارزا ممن شاركوا بفعالية بمندرجات الانتفاضة في جميع الساحات، الا ان الخلاف في الرؤية الاهداف والمقاربات ظهر مبكرا، وبقيت المبادرة نخبوية إلى حد كبير. فمنذ البداية ربطت المبادرة الفساد السياسي والمالي بالوصاية والعبث بالدستور، محاولة ردم الهوة السياسية التي لم يجتزها المنتفضون، والتي جعلت حراكهم، الفريد بحيويته، والاستثنائي بعبوره للطوائف والمناطق، وباختراقه لجسم الأحزاب السياسية الطائفية وجذبه للشباب والشابات في الوطن والمغتربات، جعلته بلا افق سياسي واضح. هذا العطب الاصلي الناتج اساساعن عفوية المنتفضين وغضبهم على الطبقة الساسية عموما التي اوصلت البلاد إلى حافة افنهيار الشامل، سهل كل الاختراقات السياسية والامنية، خصوصا اختراقات حزب الله وامل وصولا للتحكم بخيارات ومسارات بعص المجموعات وبالتالي الدفع باتجاه اعمال وتجاوزات، ساهمت جميعها، معطوفة على مشكلة كورونا، بإضفاء سردية نمطية للانتفاضة ادت الى انتكاسات وتراجعات كبيرة في الحشود التي صنعت مجدها الاول، قبل ان يتبدد بممارسات اقل ما يقال فيها، انها قصيرة النفس وتؤدي للاحباط والاحتواء.
وتتهيأ المبادرة الوطنية لعقد خلوتها، متسلحة بوعي تراكمي شحذه نقاش سياسي تفاعلي استمر شهورا، على تماس الواقع الانهياري الشامل للبنان، والذي زادت جريمة المرفأ المروعة من منسوب انهياره. وشارك في النقاش مكونات كثيرة من اعضاء المبادرة ومن محيطهم الغني والمتنوع، علما ان المبادرة تضم خليطا سياسيا وثقافيا واعلاميا مخضرما، ممن يحمل ارثا نضاليا فكريا وميدانيا، سواء من انتفاضة تشرين، سواء من انتفاضة ١٤ آذار، سواء من حراكات ونضالات المراحل السابقة التي عبقت بشتى انواع التضحيات ضد العبث والوصاية والاحتلال وبمواجهة الظلم والقهر والفساد، خصوصا من الزمن الرومانسي.
ورغم ان المبادرة تمتلك رؤية سياسية في كيفية اخراج البلد المقهور من الجحيم، تستند على المسلمات الاساسية في التمسك باتفاق الطائف وبالعروبة الطوعية الحداثية وفي تطبيق قرارا ت الشرعية الدولية، وفي مواجهة الوصاية الايرانية المتمثلة بفائض القوة الفئوية لحزب الله والتي تهدد مثلث الحرية والعدالة والحقوق، وايضا وفي قضايا الحياد الإيجابي، كما في مواجهة خسارة البلد لميزاته التفاضلية في الاستشفاء والتعليم والثقافة والنشر وفي قطاعات المصارف والسياحة والخدمات عموما، بما فيها الخدمات القائمة على الاقتصاد المعرفي والتكنولوجيا الخفيفة soft) technology)، كما على جانب من الاقتصاد الغذائي والزراعي كالنبيذ والمعلبات، فضلا عن اقتصاد الموضة والفن عموما. ومع ذلك فانها أمام تحديات كبيرة تتمثل أساسا في كيفية امتلاك برنامجها المرحلي انيابا وليس اضراس عقل فقط، ذلك ان الخصم يمتلك الى جانب فائض القوة، فائضا من الشراسة والغطرسة والفجور، فضلا عن عدم الاحساس بآلام ومآسي المواطنين التي تسبب بها أصلا.
ومع الاشادة بالتوسع والتواصل مع اكبر قدر ممكن من القوى والشخصيات التي يمكن ان تتقاطع مع المبادرة بالثوابت الرئيسية، يبقى امامها ان تجاوب أيضاعلى التساؤلات التالية.
اولا: كيف ستنجح في ان يتحول صوابها الاجمالي لخطة جذب ولو متدرجة لمعظم منوعات قوى المعارضة والاعتراص باتجاه التحول لجبهة سياسية عريضة.
ثانيا: ما هي عناصر الخطة التي يمكن ان تشكل مداميك الجسر الذي يربط عودة الامل بعودة الحشود، خصوصا ان جبهات وتجمعات وتنسيقيات كثيرة تملأ قاعات الفنادق، على امل ان يساعدها ذلك بان تملأ الساحات، ومعظمها يتطلع لملء صناديق الإقتراع في انتخابات ما، ستبقى نتائجها شبه محسومة مع فائض القوة، هذا اذا حصلت.
ثالثا: لطالما حذرنا المنتفضين من وهم التغيير السريع والتلقائي الذي زرعته بعض القوى والمجموعات والشخصيات في اذهان الشباب والشابات، منتظرة تسلم مفاتيح السلطة على طبق من فضة، وبعضهم بالتواطؤ الضمني او العلني مع تحييد سلاح حزب الله، رغم ان جريمة المرفأ انهت عمليا هذا التحييد واربكت بعض المراهنين والمتسلقين.
ونظرا لان وضع البلد والناس لم يعد يحتمل الإنتظار، خصوصا مع اقتراب جفاف او تجفيف ما تبقى من فلس الارملة في موضوع الدعم والتباساته، يصبح السؤال في كيفية تعامل المبادرة مع الواقع السياسي والحكومي مشروعا.
هل تكتفي المبادرة بصحة صواب نظرتها الاستراتيجية، ام تعمل أيضا على شحذ ادوات التكتيك السياسي المرحلي لجهة التأثير في الصراع داخل السلطة وأطرافها والتي ستعكس الحكومة العتيدة مستوى تلائمها مع الواقع الإقليمي والدولي وتطلباته وتحولاته المتسارعة.
واستطرادا هل يمكن المساهمة في استيلاد وتوجيه المراقبة والضغط لتنفيذ ما سمي بالورقة الاصلاحية الفرنسية أو بعضها، أو الأمل مفقود بالكامل وفالج لا تعالج؟ فالبلد على كف عفريت، وقد لا ينتظر هذا العفريت اسقاط الوصاية نهائيا، بل ربما يسقط البلد فريسة الجوع والفوضى الاجتماعية وربما الامنية، مما يهدد بسقوطه في فم التماسيح التي لا ترحم حين يحين الحساب.
talalkhawaja8@gmail.com
طرابلس