يحسدنا كثر على جرعة الأمل التي نحتفظ بها، رغم منسوب الاحباط والقلق الذي يرافق اللبنانيين في حلهم وترحالهم منذ نصف قرن.
ساعدنا هذا الأمل على تخطي الكثير من الصعاب، فقد حفزنا في معركة المدينة الجامعية في المون ميشال، حيث كنا نسير في حقول الغام المصالح السياسية وتضخم الأنا النرجسية، كما ساعدنا في معاركنا النقابية والاكاديمية خلال مرحلة النظام الأمني وعملية الاحتواء التي لغم فيها النظام السوري وحلفاؤه ما تبقى من حركة عمالية، محولينها لحركة غب الطلب، قبل ان تطرد قواته من لبنان في أعقاب استشهاد رفيق الحريري وانتفاضة الاستقلال الثاني التي جذبت أكثر من مليون لبناني الى ساحات الحرية في ١٤ آذار ٢٠٠٥.
يتأرجح منسوب الأمل مع تأرجح الأزمات السياسية التي عصفت بوطن الأرز. ويشكل اللبنانيون بحراكاتهم الإبداعية رافعة تجديد هذا الأمل. ولا نتجاهل العناصر الأخرى التي كان لها التأثير الايجابي أحيانا والسلبي أحيانا أخرى. كانطلاق الربيع العربي الذي بدأ سلميا ثم انقلب في بعض محطاته داميا، خصوصا في محطته السورية الأكثر دموية، والتي كان لها انعكاساتها الكارثية على لبنان حين ذهب حزب الله بطلب من رب عمله الإيراني لنجدة النظام الإجرامي الذي حول الربيع السلمي الى خريف دام.
تراجع منسوب الأمل بعد الاتفاق النووي وتوحش المخالب الإيرانية في الإقليم، معززة سيطرة حزب الله على البلد بموازاة تفكك حركة ١٤ آذار، وصولا لفرض انتخاب الجنرال عون رئيسا للجمهورية اللبنانية بعد سنوات الفراغ المكلفة، عبر تسوية سياسية وصفها أحد مشاركيها من الضفة الميني السيادية بأنها مغامرة، بينما هلل لها المشارك الاخر باعتبارها مدخلا للرئاسة القوية والجمهورية القوية وكأن حزب الله أصبح جمعية كشفية.
ومع أن هذه التسوية بالغت بتقدير حجم اختلال موازين القوى الداخلية والإقليمية والدولية، إلا أنها ترافقت مع ضعف الحركة السيادية المستقلة، وهو ما تعبر عنه بتفكك الأمانة العامة وانهيار تجربة المجلس الوطني التي حملها مستقلون عابرون للطوائف في مقدمهم سمير فرنجية وفارس سعيد.
ومن المعبر أن حراك النفايات الذي سبق التسوية الرئاسية، كان يؤشر بشعاراته وبقواه لنشوء مجموعات جديدة تخترق الطبقة الوسطى وخارج الغيمة السيادية التي ظللت معظم الحراكات منذ الالفين، وكان قد سبقه حراك آخر تحت شعار اسقاط النظام الطائفي، علما ان الحراكين اخترقا من قوى مذهبية تحت شعار العلمانية والدولة المدنية. فلا غرابة أن يغيب عمليا الموضوع السيادي في ضفتي السلطة ومعارضيها عن انتخابات ٢٠١٨ والتي انعقدت على قانون ميني- ارثوذكسي ملطف نسبيا، مما ادى الى سيطرة حزب الله عمليا على المؤسسات الشرعية الثلاث، معززا إمساكه بالحياة السياسية بالبلد بفائض اكثري بعد تحكمه بفائض القوة المسلحة والمطعم بفائض من الحقد، كرسته “ذمية مار مخايل” ورافقته ممارسات أدت الى تحويل وسط بيروت الجاذب للسياح والمنبعث من الدمار إلى مركز للأشباح.
أدت سيطرة حزب الله على البلد ووضعه رهينة بيد الغانغستر الإيراني العابث بالمنطقة ومستقبل شعوبها في معركة تحسين شروط مواجهته ومفاوضاته للولايات المتحدة، لانهيار سياسي وسيادي لبناني غير مسبوق، ولمزيد من الانكشاف والانعزال أمام المجتمعين العربي والدولي، مما سرع بالانهيار الاقتصادي والمالي والنقدي المتلازم مع ازدياد العجز والفساد والهدر والزبائنية التي وصلت لمستويات مرضية مع ما سمي بالعهد القوي.
وإذ طفح كيل اللبنانيين، خصوصا الشباب منهم، والذين شكل لهم حراك النفايات وشباب غير طائفي رمزية اقرب لعقولهم من رمزية انتفاضة الاستقلال الثاني التي شارك فيها آباؤهم، فإن انتفاضتهم الغاضبة بوجه السلطة أخذت منحى اجتماعيا ومعيشيا مباشرا، محملين الطبقة السياسية برمتها والتركيبة المذهبية والطائفية مسؤولية الانهيار، رافعين شعار “كلن بعني كلن”، حتى أن البعض رفع شعار إسقاط النظام والخلاص من الاساسات الطائفية التي يراها مسؤولة عن الحروب الاهلية الباردة والحامية.
فالشباب المنتفض في ١٧ت١ لم يلمس بعضا من حسنات التنوع الطائفي الملتبس ودور لبنان كجسر اقتصادي وثقافي، ساهم في اكساب اللبنانيين على مدى عقود بعضا من الديمقراطية وكما من الازدهار وفسحة واسعة من الحريات،
وللمفارقة فقد تعزز هذا الازدهار في النصف الأول من السبعينيات، رغم توسع العمل الفدائي الفلسطيني المنحسر اردنيا ورغم اتفاق القاهرة سنة٦٩. علما ان هذه التطورات ستؤجج الصراعات والتناقضات و الاستهدافات الداخلية والخارجية وستؤدي إلى موجات التحفيز والتدريب بين القوى والأحزاب السياسية، العلمانية والطائفية، اليمينية واليسارية، باتجاه الارتطام الكبير في ١٣ نيسان ١٩٧٥.
ويرفع المرء القبعة للمنحى اللاطائفي الذي عكسه الشباب اللبناني المنتفض، والذي انطلق مع مجموعات شبابية متعلمة ضمن الطبقة الوسطى وبمشاركة لافتة ومميزة للمرأة، وتمدد عند المنتفضين الشباب القادمين من الأحياء المدينية المهمشة ومن الأرياف البائسة حيث تختلط الثقافة بالدين، ما جعله يتأثر أحيانا بنظريات العنف والأعمال الفردية على حساب مشهد الحشود الجاذبة، والتي تتطلب النفس الطويل.
الا ان هذا الوعي المديني العابر للطوائف والمناطق، رافقه تغافل عن واقع سياسي وكياني أساسي يتعلق بالقضية السيادية المتمثلة بسلاح حزب الله وخضوعه لدولة خارجية ومعادية للعرب الذين يشكلون إحدى خصائص الهوية اللبنانية، ومصدر دعم لميزات لبنان الاقتصادية والتي اكسبته نمط عيش متقدم، وان كان رجراجا وغير عادل. والمؤسف أن غزوات حزب الله للمعتصمين واتهامات نصرالله للمنتفضين بالعمالة للسفارات لم تكسر عامل التغافل الذي شكل نقطة الضعف الرئيسية، والتي تسربت منها عوامل الرطوبة مضعفة مناعة الانتفاضة، حيث وجهت في الغالب نحو أهداف بدل عن ضايع.
رغم أن مظاهرة الرد على جريمة المرفأ المروعة شكلت نقلة نوعية لجهة استحضار قضية السيادة وتحميل حزب الله والسلطة عموما مسؤولية الانفجار والانهيار معا، ما استجر قمعا دمويا، خصوصا من ميليشيا المجلس النيابي، ورغم التضامن والاحتضان الواسع من الشباب اللبناني للاهالي المفجوعين في الأحياء المدمرة في العاصمة، فإنها لم تستطع أن تعيد الزخم للانتفاضة. وربما ساهمت محاولة ماكرون الانقاذية وما تبعها من اهتمام عربي ودولي في تخفيف الاندفاعة، خصوصا حين راهن على الطبقة السياسية في تشكيل حكومة مهمة توقف الانهيار وتقيم إصلاحات وتعيد إعمار المناطق المهدمة، فضلا عن مواجهة جائحة كورونا، متجاهلا قضية السيادة وسلاح الحزب والشبق العوني للسلطة.
إلى أين يتجه البلد بعد ٤٦ سنة على انفجار الحرب الاهلية وهل نتجه نحو ارتطام ما بعد هذا الانسداد، هل يكفي تحديد الاحتلال الايراني كمصدر الخطر الأساسي على الكيان، وهو احتلال من نوع خاص، يقوم بواسطة فئة لبنانية أساسية مدججة بالسلاح والايديولوجيا ومتحالفة مع فئات متعطشة للسلطة الغنائمية.
إذا كان صحيحا أن الوحدة اللبنانية حول هوية الكيان والدستور والشرعيتين العربية والدولية والقرارات الاممية الثلاث، فضلا عن الحياد الناشط تشكل منطلقا لمواجهة “الاحتلال بالواسطة” والغلبة الفئوية، الا ان ذلك لا يجاوب على بقية الازمات التي تطال حياة ومستقبل اللبنانيين وتقض مضاجعهم، رغم تناسل معظمها من القضية السيادية الاصلية.
وفي المقابل نسأل القوى الشبابية، اليسارية والعلمانية خصوصا، هل يمكن مواجهة السلطة السياسية وتداعيات الازمة السيادية والكيانية دون المواجهة السلمية للاحتلال الايراني وان بالواسطة(دعكم من سردية المقاومة والتباساتها ومن بندقيتها الجوالة في الإقليم، وراقبوا قصص التراسيم ومراسيم المقايضة وانكشاف التلاعب بموضوع شبعا والبلد في البحر واليابسة، ومشهدية التدقيق الجنائي التي يعريها مسلسل د.جان علية والعبث بما تبقى من قضاء). فاليسار قاوم الغزو واحتلال العدو الاسرائيلي وتصدى لتدخل وهيمنة النظام السوري، كما عارض التجاوز والانفلاش الفلسطيني. ومع الفارق في الزمن والظروف وطابع الاحتلال بالواسطة وانعكاساته الفئوية على أسس الكيان والوحدة الداخلية، والتي ندعو للتمسك بمقوماتها في مواجهة فائض القوة والهيمنة الفئوية، فإننا نذكر بعض اليساريين بأن منتفضي كومونة باريس الشجعان، رغم تحذير كارل ماركس لهم، دفعوا الثمن غاليا حين ظنوا أنه يمكن هزيمة السلطة بتجاهل الاحتلال الألماني الذي سهل حركة قوات هذه السلطة ضمن صفقة مع رئيس الحكومة تيارس.
لم يعد مشروعا احجام الجبهات الوطنية السيادية المستقلة عن “التعاطي الناشط” في الموضوع الحكومي شكلا ومضمونا
والمواكبة الناشطة للحراك العربي والدولي الذي يجري على تخوم التحولات والصراعات والمفاوضات والتسويات، فقد تضيف نكهة مختلفة للصراع حول الحكومة ويمكن أن تؤثر على سياسة الأحزاب الميني سيادية الغارقة في الانعزال داخل شوارعها الطائفية، محصنة بمواقف فئوية وانتهازية استعدادا لمنازلات انتخابية،مدججة بكراتين مساعدات لن ترقى اطلاقا لاستعدادات دويلة حزب الله المثيرة للقلق من القادم.
كما لم يعد مقبولا ادارة الظهر للتداعيات الخطيرة، ماليا ونقديا واجتماعيا للانهيار السياسي والاقتصادي، فلا يكفي ان نقول ان لبنان يخسر ميزاته المصرفية والاستشفائية والتربوية والثقافية والخدماتية والسياحية وبعض الصناعات وغيرها، ونلعن المنظومة وحاميها المسلح الذي يبتز المصرف المركزي في عصر فلس الارملة. بل يجب الانتقال الى المواقف العملية التي تضع الامور في نصابها وسياقها، فتفرز المواقف الشعبوية والاستعراضية والانتهازية في مواضيع الدعم وانهيار الليرة والتهريب والفساد والحوكمة الرشيدة عن متطلبات الدفاع الفعلي عن صحة وعيش ومدخرات ومصالح اللبنانيين المقهورين. عل هذه المواقف المنسقة والمركزة تخلق دينامية جاذبة لتوجيه موجات الاعتراض الشعبية والمهنية والنخبوية والنقابية في الاتجاه الصحيح.
هكذا ندعو لمقاربة تجمع بين المقاومة السلمية السيادية والكيانية ومواجهة مكامن الانهيارات الكارثية، ولمعارضة تستطيع اجتذاب الحركة الشبابية الرائعة والعابرة للطوائف والمناطق، والتي على سواعدها وحيويتها نهضت مشهدية ١٧ت١، كما تجتذب بقية اللبنانيين المكتوين بنار جهنم، فلعل هذه المعارضة تجدد الأمل وتخفف من الحدة المذهبية المستعادة، بعد تراجعها على وقع الانتفاضة.
وسيكون على هذه المعارضة مواجهة مظاهر القمع والاحتواء والاستدعاءات القضائية غب الطلب، فضلا عن التنبه للخطر الأمني، وصولا للاغتيال السياسي الذي كان آخره اغتيال الناشط والمثقف البارز لقمان سليم. أما الأحلام المشروعة في التغيير الفعلي فاخاف ان تتحول الى اوهام اذا اعتقد البعض أنها ممكنة من خلال انتخابات على أهميتها بوجود فائض القوة الفئوية المسلحة.
talalkhawaja8@gmail.com