الأغلبية الشعبية، التي لا تعبر عن نفسها بما يكفي في الحالة العادية، هي التي تأخذ دور البطولة بلا منازع في الثورات، وتعيد صياغة أي شرعية، أو تمهّد، حتى لو فشلت في جولة أو أكثر، للإطاحة بالهيكل السياسي القديم وبناء عقد اجتماعي جديد في نهاية المطاف. ينطبق ذلك على ثورة اللبنانيين، التي فاجأت المراقبين بحضورها القوي والمؤثر وشعارها الوطني الموحد، ومارست الحرية السياسة عمليًا وفي الشارع، مستندةً إلى إعلامٍ ذي خبرة، فضلًا عن وسائل التواصل الاجتماعية التي أصبحت أكثر من ضرورة لتنظيم أي نشاط عام، بما في ذلك النشاط الثوري.
وحّدت الثورة غير المسبوقة أغلبية اللبنانيين في مواجهة الائتلاف المذهبي الحاكم، فطالبوا برحيله بالكامل؛ أي بحسب التعبير الشائع في التظاهرات: “كلن كلن”. ولأول مرة يتعرّى نظام المحاصصة الطائفية العريق ويتزعزع أساسه، ليس في لبنان فحسب، إنما في البلدان التي اختبر فيها نموذج آخر منه، كما في العراق، أو في البلدان التي قد يُختبر فيها لاحقًا، كأحد السيناريوهات المحتملة لمحاولة الخروج من الأزمات السياسية المستعرة في أكثر من بلد.
ثمة بعض المستجدات التي فرضتها، أو ستفرضها، الثورة اللبنانية على الواقع اللبناني. المستجد الأول هو الإجماع الوطني المتجاوز لنظام المحاصصة الطائفية، والذي يجعل كلَّ الحلول التي كانت تُعتمد في السابق بلا فائدة، كما يصعب على هذا النظام استعادة توازنه ثانيةً من دون حصول تصدعات كبيرة في بنيته، بكلامٍ آخر، أصبح بقاء نظام المحاصصة على حاله أمرًا صعبًا، واستبداله بنظامٍ وطني جديد مجرد مسألة وقت.
المستجد الثاني هو الدور الذي يمكن أن يضطلع به الجيش اللبناني، في ضوء شبه الإجماع الوطني الحاصل، ليس فقط بحماية المتظاهرين، بل بتعزيز دوره الوطني، بعيدًا من محاصصات السياسيين، فلا يعود ينقسم على نفسه، كما حصل إبان الحرب الأهلية اللبنانية (1975). بالفعل، رأينا كيف عمل الجيش اللبناني في الأيام الأخيرة على حماية المتظاهرين، من محاولات عناصر “حزب الله” وحركة (أمل) شق صفوفهم والاعتداء عليهم. وعلى الصعيد السياسي، يمكن للجيش أن يقوم بمهامّ إنقاذيه أيضًا، مثل تشكيل مجلس عسكري يحكم خلال فترة محددة، ريثما تحصل انتخابات جديدة، رئاسية ونيابية، ربما استنادًا إلى قوانين جديدة تعتمد النسبية أساسًا، كأحد المخارج، في حال استقالت الحكومة أو شُلّ عملها.
المستجد الثالث هو صعوبة قيام “حزب الله” بممارسة دوره التقليدي في هذه الظروف، وهو الذي يتحكم في سلطة الدولة ويهيمن على قرارها، فالشعب الآن موحد ولا يوجد ثغرة مهمة لينفذ منها الحزب من أجل أن يستعيد التوازن لصالحه، مثلما حدث في مغامرة السابع من أيار (2008)، وقد امتد الحراك الشعبي إلى “عقر داره”، وضمه المتظاهرون إلى مجموعة “كلن كلن”. مع ذلك، يحاول الحزب تجريب هذا السيناريو من جديد، من خلال حشد أنصاره لاعتراض طرق المتظاهرين والتهجم عليهم في الساحات، للإيحاء بأن الأمور ما زالت على حالها، وأن جمهور الحزب موحّد، وينتظر تلك الإشارة من إصبع زعيم الحزب.
لكن الواقع يقول إن وحدة جمهور الحزب في خطر، ورفع أعلام الحزب ليس نقطة قوة، في الوقت الذي يرتفع فيه العلم اللبناني من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، وبالتزامن مع اندلاع التظاهرات العراقية، التي يتجاهلها الزعيم، في وجه الميليشيات المشابهة. الأمر جديد على الحزب بالفعل، فقد تمكن، بمساعدة حليفته حركة (أمل)، من التحكّم في القرار في مناطقه مدة طويلة، ومن ثم التحكّم في لبنان كله، من خلال تجميع حلفائه الآخرين وفرض من يريده رئيسًا للبنان، بعد شغور هذا المنصب لأكثر من سنتين. وإذا أضيفت إلى ذلك الضغوط الخارجية المطبقة على إيران، والتي تنعكس على وضع الحزب باعتباره الذراع الخارجية الأهم للمشروع الإيراني في المنطقة، فإنه ليس في ذلك الوضع المريح الذي حاول زعيمه الإيحاء به في خطابه يوم الجمعة الماضي.
في ضوء ظهور ملامح إعادة تشكيل الأنظمة السياسية في المنطقة، علاوة على العلاقات الشعبية المميزة، يمكن فهم شدة اهتمام السوريين بالحدث اللبناني، مهما تكن طبيعة تجليه.
الدرس الأول للسوريين هو أن تضامنهم يعدُّ المدخل الأساس لاستعادة بلدهم ونبذ كل أشكال الاستبداد والتدخلات التي أوصلتهم إلى هذه الحال. كما استفاد اللبنانيون من تجربة السوريين التي حطمها القمع وشتتها مختلف التدخلات الخارجية. في كل الأحول، ثمة فرصة جديدة للعودة إلى تضامن الشعبين السوري واللبناني على قاعدة المصالح المشتركة واستعادة الأخوة الحقيقية.