حوار: مايكل هيرش
ترجمة »أحمد شافعي”
ربما لم تثر فكرة من الجدل ـ والخلاف ـ منذ نهاية الحرب الباردة مثل ما أثاره مفهوم فوكوياما لـ”نهاية التاريخ”. في مقالة له سنة 1989 استعمل العبارة عنوانا، وإن على هيئة سؤال، ثم ذهب أستاذ الفلسفة السياسية بجامعة ستانفورد في كتابه الصادر سنة 1992 بعنوان “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” إلى أنه مع انهيار الشيوعية بات طريق الديمقراطية الليبرالية والرأسمالية على الطريقة الغربية إلى الانتشار العالمي واضحا وممهدا. كما ذهب إلى أن البشرية ربما تكون قد حققت نوعا من الوصول إلى نقطة النهاية في تطورها الاجتماعي السياسي. ولكن الأمور لم تسر على هذا المنوال البسيط، فقضى فوكوياما السنوات الثلاثين الماضية يشتبك مع المنتقدين ويطور رؤاه.
يقول فوكوياما، البالغ من العمر ثمانية وستين عاما، إن مفهومه الأصلي المستقى من الفيلسوف الألماني هيغل تعرض لكثير من سوء الفهم. فهو لم يقصد قط القول بأن الديمقراطية والرأسمالية سوف تنتشران في كل مكان بل قصد بالأحرى أن الديمقراطية وحدها هي القادرة على تلبية الحاجة الإنسانية الأساسية إلى الاعتراف الفردي وأنه لا يبدو أن العالم يقوم بتطوير بدائل أرقى. يقول فوكوياما في حوار مع فورين بوليسي إنه لم يزل يؤمن أن هذا صحيح، لكن ثمة أخطارا كثيرة على الديمقراطية لم يتنبأ بها ـ مثلما تبيّن أخيرا في صعود وسقوط دونالد ترامب. وتجدر الإشارة أخيرا إلى أنه تم تحرير هذا الحوار مراعاة للطول والوضوح.
ـ في مقالة لك نشرت سنة 2014 ثم في كتابك الصادر سنة 2018 بعنوان “الهوية: طلب الكرامة وسياسات الاستياء”، استشرفتَ أن سياسات الهوية مدفوعةً بالاستياء سوف تقوض الديمقراطية. هل يفسر هذا ما شهدناه في البرلمان الأمريكي في السادس من يناير؟
ـ حسناً، أعتقد أن ما جرى بنسبة أكبر في اليمين عنه في اليسار هو انتقال من الاستقطاب السياسي والانقسامات القائمة على قضايا سياسية إلى انقسامات قائمة على الهوية. بمعنى أن القضية الأساسية هي الولاء لرؤية محددة، رؤية لما ينبغي أن يكون عليه شكل البلد، والقيم التي ينبغي أن تتوافر فيمن يديرون البلد، وليست قضايا الإجهاض والسلاح ومعدلات الضرائب أو أي مما دأب على الفصل بين الجمهوريين والديمقراطيين. وبسبب جنون ترامب، أصبح الأمر شخصيا للغاية.
لقد صعقت وأنا أقرأ تعليقات مثيري الشغب في بارلر Parler [وهي منصة بديلة للتواصل الاجتماعي أثيرة لدى المحافظين]. كثير جدا من الناس يقولون “حسناً، لو أن الرئيس يريد عمل شي، فسوف نعمله”. فالمعيار الحقيقي ليس أي نوع من الحكم المستقل على ما يتصور شخص أنه فكرة جيدة أو رديئة، بل إن هناك من يعتزم عمل ما يأمر به الزعيم في حركة هوياتية. وهذا أمر سيء بوضوح، لأنه ليس قائما على تدبر، بل هو قائم على ولاء قَبَلي محض. وطبيعة هذا الولاء ـ وطريقة تحوله مخيفة. في التراث القديم كان هذا الولاء مرتبطا بالهوية المسيحية. لكن أنواع الولاء الجديدة قائمة وحسب على نظريات المؤامرة الجنونية. أعتقد أن هذا يحدث في بلاد أخرى. فالناس في الشرق الأوسط يفكرون دائما في وجود من يحرك الخيوط من وراء ستار، وهذا بالنسبة إليهم واقع، ولكن مدى تجذره هنا أمر جديد تماما.
ـ لكن هل هذا أمر ينفرد به ترامب؟
ـ ليس بالكامل. أقصد أنه حينما يدفع رئيس الولايات المتحدة بمثل هذه الأفكار، يصعب التراجع عنها. لقد كانت لدينا “جمعية جون بيرش” [المناهضة للشيوعية] وكثير من المجانين في الخمسينيات والستينيات، لكنني أعتقد أن المؤسسات كانت قادرة على السيطرة على الخطاب إلى حد كبير جدا. وهذا هو الامتحان الذي يواجهه البلد الآن. لو تذكرنا جون مكارثي، لرأينا أن الظاهرة مشابهة جدا، حيث أخذ ذلك الرجل ينفث نظريات مؤامرة جنونية حول اختراق الشيوعيين للجيش والخارجية. وكان الجمهوريون جميعا يخشون مواجهته إلى أن تولت السناتور مارجريت تشيز سميث والجيش ومؤسسات أخرى قليلة أمر محاربته. ثم انهارت المكارثية بسرعة شديدة. والسؤال: هل يمكن أن يقع أمر كذلك حاليا؟ لا يبدو أن الأمر كذلك.
ـ طوال خمس سنوات ونحن نتساءل متى تحين لحظة مكارثي في مسيرة ترامب. ولم تأت مطلقا. لعلها قائمة الآن، بينما هو يغادر السلطة ليكون أول رئيس يتهم بالتقصير مرتين، وهذه المرة بسبب التحريض على التمرد؟
ـ ثمة بضعة أمور تجعل المرء يظن أن الأمر قد ينجح هذه المرة فعلا. فعالم الشركات لا يريد أن يتورط في هذا. وأعتقد أن سابقة انفصال بعض جمهوريي المؤسسة عن ترامب أمر له دلالة. وهناك أيضا فقده لتويتر. لقد كنت أحدث نفسي قائلا إنه لشيء عظيم ألا أكون مرغما على الاستماع إليه ثانية. ذلك كان أذكى ما فيه: أنه كان يعرف فعلا كيف يغذي ذلك الوحش بانتظام. وفور أن يتمكن الجوع ويفتقد الوقود، سوف تضعف الظاهرة في ظني. من ناحية، لا يمكن منعهم من التواصل ومؤكد أنك لن تمحوهم محوا، لكن لا يجب تضخيمهم أيضا تضخيما مصطنعا، وأعتقد أن هذه العملية بدأت. وهذا حاجز قوي قادر على المساعدة في تهميشهم.
ـ قلت في كتابك الأخير إن الديمقراطية لن تدوم “إذا لم يؤمن المواطنون أنهم جزء من كيان سياسي واحد” يبدو أن هذه هي المشكلة التي نواجهها مع الاستقطاب في الولايات المتحدة.
ـ أعتقد أنها ليست مشكلة عصية على الحل. ويتعلق جانب كبير منها بالسلطة السياسية. لأن الناس تريد لنفسها سلطة سياسية، وإذا صعب على الناس الذين يتنافسون على نسخة واحدة من الهوية الوطنية أن يفوزوا بالانتخابات أو يظفروا بأعلى مستويات السلطة الحقيقية في البلد، فإنهم سيعيدون النظر في ما يحتاجون إلى تغييره في الرسالة. لو أنك تلقيت هزيمة انتخابية حاسمة أو سلسلة من الهزائم الانتخابية، حيث يمضي الجمهوريون على المسار فلا تتحول مسيرتهم إلى كرة ثلج تكبر، يكون لزاما عليهم عليهم أن يعيدوا التقييم. والصراحة أن الانتقال من الاستحواذ على الرئاسة وغرفتي الكونجرس إلى فقدان كل تلك المؤسسات لا يمكن أن يعد نجاحا. وهم إذ يبدأون في التفكير في المستقبل، يجب أن يستوعبوا ذلك.
وربما لا يجدر بي أن أقول هذا، لكن هذا التغير لن يحدث دون مزيد من الهزائم. وإذن، لو أننا في طريقنا إلى مرحلة يتحول فيها جناح ترامب إلى منظمة إرهابية، وتحدث اغتيالات واختطافات وهجمات على البرلمان ومثل ذلك، فإنهم لن يفوزوا في الصراع، بل إنهم في النهاية سوف يغرسون بذور هلاكهم النهائي.
ـ ما الذي تقوله حقبة ترامب عن هشاشة الديمقراطية وصعود أشكال جديدة من الاستبدادية؟
ـ منذ سنوات كثيرة وأنا أظن أن مؤرخي المستقبل حينما ينظرون بعد مئة عام إلى هذه الفترة ويتساءلون لماذا انهارت الديمقراطية في الغرب؟ وما الذي حدث فعلا؟ أعتقد أن [رئيس الوزراء الإيطالي السابق سلفيو] برلسكوني سيكون من الشخصيات الأكثر محورية. لأن برلسكوني توصل إلى وسيلة لكسب القوة السياسية بالمزج بين القوة السياسية والقوة الاقتصادية. أقام إمبراطورية إعلامية أتاحت له الترشح للمنصب، ثم ما كاد يصل إلى المنصب حتى استغل سلطته السياسية لحماية إمبراطوريته الإعلامية. فصارت كل منهما تغذي الأخرى. وهذا في حقيقة الأمر هو المسار الجديد إلى السلطة في الدول الديمقراطية الراسخة.
ثم إن ما فعله ترامب هو أنه امتلك فعليا قناته التليفزيونية، فوكس نيوز، ثم طور وسائل تواصله من خلال تويتر. لكنني أعتقد أن هذا هو السر: عليك أن تسيطر على السردية. لا أن تستعمل القوة. لذلك أعتقد أن خطوط التصدعات في الديمقراطية الحديثة تتمثل في أولئك الذين تناولوا صيغة برلسكوني واستعملوها وسيلة لكسب القوة السياسية.
ـ نوع من شبه الشرعية؟
ـ وهذا واضح، لمن يملك السيطرة على السردية الواقعية. هذا أكثر ما يبهتني في اللحظة الراهنة. يمكنني القول إن الغالبية العظمى من ناخبي ترامب لا يريدون حكما استبداديا. إنما هما يتصورون فعلا أنهم يدافعون عن الديمقراطية. يظنون أن ترامب فاز شرعيا، وأنه حرم من فوزه، وأنهم إنما يدافعون عن هذه المُثل الأمريكية القديمة.
ـ إلى أين تقودنا في نهاية المطاف هذه الشعبوية المدفوعة بالتفكير التآمري؟ هل تستمر على هذا النحو في المستقبل، أم تدمر نفسها ذاتيا بطريقة ما؟
ـ أمور كثير تتحرك منذ 2016 وسوف تؤدي إلى إضعاف هذه الموجة. أرجو يقينا أن يكون هذا هو الحال. ما فعله تويتر وفيسبوك معقد. في رأيي أنه من المهم أنهما انتزعا من ترامب منصته وكثيرا من أنصاره، لكن هذا ليس بالحل العظيم لأنهما ما كان ينبغي أن يحظيا بهذه القوة في المقام الأول. لكنني أعتقد أن ثمة إجماعا متناميا على أن قوتهما أكبر مما ينبغي وأن المجتمع بحاجة إلى أن يسترد السيطرة على هذه التكنولوجيا النافذة التي تشكل الوعي الإعلامي.
ـ حتى حينما كنت تقدم فرضية نهاية التاريخ، كنت تحذر من مآزق. والآن وقد اختبرت كل أشكال الحكم تقريبا وثبت فشلها، بما فيها الديمقراطية، وبما فيها الرأسمالية. أثارت مقالتك الأصلية سؤالا: ما الغاية النهائية لعملية التحديث؟ لكن ها نحن في مكان نفتقر فيه إلى خطوة نهائية ممكنة. هل هذا ما نحن في مواجهته: التخبط الأبدي؟
ـ يعني، لا أعتقد أن هذا هو الحال. في واقع الأمر، لقد أوضح الكاتب روس دوثات في نيويورك تايمز الأمر على نحو لم يخطر لي من قبل: قال إن نهاية التاريخ قد لا تكون شكلا من أشكال الحكم بل قد تكون عودا أبديا إلى الدورة نفسها. بمعنى أننا فكرنا فعليا حتى استنفدنا مختلف التنويعات، من الحكم الديمقراطي إلى الاستبدادي. ولا يبدو أن ثمة شكلا آخر مختفيا ولم يتوصل ذكاء الناس إليه.
نهاية التاريخ هي التدوير المستمر لهذه التنويعات المختلفة. فمثلا، في الناحية الاقتصادية، لا أعتقد أن اليسار الجديد طرح أي شيء أهمله اليسار الديمقراطي الاشتراكي قبل خمسين سنة. ربما يختلف ما يتم التركيز عليه، مثل “الصفقة الجديدة الخضراء”، لكن فكرة استعمال قوة الدولة في إعادة توزيع الثروة وما إلى ذلك هي نفسها. واليمين لديه حنين إلى الماضي، كل ما هنالك أنهم يريدون الرجوع إلى نقطة يتصورون أنهم وصلوا إليها من قبل. لكن ما يدفعون باتجاهه ليس مجتمعا جديدا.
وإذن فقد تكون نهاية التاريخ هي الدوران المستمر كدوران سنجاب في طاحونة.
ـ لكن هناك ما لن نرجع إليه ـ كالملكية مثلا. إلى حد ما يبدو أننا نتطور إلى مزيج من حكم القلة والديمقراطية أو ربما الديمقراطية بنكهة الاستبدادية في كثير من البلاد.
ـ المشكلة أنني لا أعتقد أن هذه التنويعات ثابتة هي الأخرى. فمن المشكلات الكبيرة في الديمقراطية غير الليبرالية التي ينتهجها [رئيس الوزراء المجري فكتور] أوربام ما يتمثل في نوع من رأسمالية المحاسيب crony capitalism. قرابة 5 في المئة من إجمالي الناتج الوطني المجري يأتي كدعم من الاتحاد الأوربي، وهذا مشين. ومن الناحية الاقتصادية لا يمكن أن ينجح هذا. فالحصول على هذا الدعم الخارجي نوع من الفساد. وأعتقد أن هذه الدجاجات سوف ترجع إلى بيوتها للمبيت بمرور الوقت. ولن يكون المجر مكانا اقتصاده قابل للحياة.
ـ دعنا نتكلم عن النظام الدولي ـ هل نحن في ركود دائم حيث لا يجري حل أي شيء، على خلفية نهاية التاريخ؟ قال باري جيوين وجون إيكنبيري ـ وهما على طرفي نقيض سياسيا ـ إننا قد نكون بحاجة إلى تقليل توقعاتنا من الدولية الليبرالية [liberal internationalism] وجعلها أميل إلى الواقعية. وهذه طريقة أخرى للقول بأننا لن نغير الصين وروسيا التغيير الذي كنا نتصوره.
ـ أوافق على أن الصين قد تتغير، لكنها إذا تغيرت فلن يكون ذلك لأي سبب له علاقة بنا. سينجم تغيرها عن تناقضاتها الداخلية. أعتقد أن الواقعية تفرض أن تقوم أكبر قوة في النظام بوضع كثير من القواعد. وذلك بالضبط ما فعلته الولايات المتحدة حين كانت القطب الوحيد المهيمن. وما من سبب يدعو إلى الظن بأن الصين لن تفعل مثل ذلك. فيما نتكلم الآن، يقومون باختراق كل منظمة دولية، محاولين زرع رجالهم.
ـ لكن المثير أنهم يفعلون ذلك من خلال النظام الدولي الراهن، لا باستبداله.
ـ لأنهم لا يقبلون على المخاطرات مثل الروس. لكنني أعتقد أن النتيجة النهائية هي أنهم سوف يتمكنون من ليِّ هذه المؤسسات بما يتفق ورغباتهم. ولن يروق لنا ذلك بالمرة. لكن واقعيا قد لا يكون هناك الكثير الذي يمكننا أن نفعله حيال أمور مثل وضع المعايير وحول قدرتهم على الوصول إلى المجتمع الغربي وصياغة الخطاب فيه.
ـ أخيرا، الوباء. نشرت مقالة في فورين بوليسي في الصيف الماضي قلت فيها إن أزمة كوفيد 19 فضحت “ضعف” المؤسسات في كل مكان. لكنك كتبت أيضا أنها قد تعزز الوحدة الاجتماعية، ومساندة الحكومة، وسبل حماية أفضل للمجتمع في بعض البلاد، مثلما حدث بعد الحرب العالمية الثانية والكساد. ما الأثر بعيد المدى؟
ـ ملاحظتي الأولى هي “إنها السياسة يا غبي”. فنجاعة ردود الأفعال اعتمدت على السياسة بدرجة كبيرة. قدرة الدولة مسألة مهمة، لكن انظر إلى الولايات المتحدة. لدينا مؤسسات قوية، وقدرة كبيرة. وما زلنا نتخبط. فالثقة والتوافق الاجتماعي بطريقة ما أصبحا أهم القضايا. أعتقد أنك ترى هذا في اليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا والدول الإسكندنافية. بعض البلاد الديمقراطية استطاعت أن تحافظ على التوافق والعديد من البلاد أمكنها تقويته. شعبية المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل زادت خلال السنة الماضية. أما البلاد الاستقطابية التي تنتخب قادة مجانين فلن تبلي بلاء حسنا.
ـ لنفترض أن جو بايدن أحسن العمل كرئيس في مقاومة الوباء. هل يساعد هذا في مداواة الاستقطاب في الولايات المتحدة؟
ـ قد يحالفه الحظ. فقد تم التوصل إلى اللقاح الأول قبيل انتخابه. وفور تداوله، فإن احتمالية تعافي الاقتصاد سوف ترتفع كثيرا. وقد تمضي الأمور في صالح الديمقراطيين. وهذا لن يحول الاستقطاب كلية إلى محض ضجيج في الخلفية، لكنني أعتقد أنه سوف يساعده على نيل الشرعية.
المحاور هو نائب مدير قسم الأخبار في فورين بوليسي التي نشر الحوار في موقعها على الإنترنت في 18 يناير 2021
نشر الحوار في فورين بوليسي ونشرت الترجمة في جريدة عمان