المطالبون بالفدرالية والكونفدرالية هم النسخة المعاصرة من الطفّار. كِلاهما ضدّ فكرة الوطن والعيش في مجتمع مُتعدّد. كِلاهما ضدّ نصائح الجنرال غورو وضدّ مشروع الثورة الفرنسية التي أسّست الأوطان في أوروبا، ورسمت الرأسمالية حدودها، والتي اعتمدت الديموقراطية حلّاً لمشكلة التعدّد والتنوّع.
في ظنّ كلّ منهما، بل في وهمه، أنّ المشكلة تكمن في الجغرافيا. فما الذي سيتغيّر ويتبدّل لو حكمت لبنان سلطة كالثنائي الشيعي أو الثنائي الماروني، وما هو الفارق بين أن يمارس المستبدّ استبداده على محافظة أو على خمس محافظات، أو في بلد قد يحمل اسم لبنان، أو قد يصير إحدى محافظات سوريا؟ المسألة أيها الطفّار، لا علاقة لها بالمساحة، بل بطبيعة السلطة الحاكمة.
ماذا لو التحق الشيعة بالشريف حسين ومشروعه القومي؟ هل كانوا سينعمون بامتيازات أفضل في ظلّ نظام البعث؟ وماذا لو تقرّر أن يكون لبنان جزءاً من المشروع الناصري أو ملحقاً بمشروع الهلال الخصيب أو بحِلف بغداد؟ أو لو استتبعه اليسار الشيوعي بحلف وارسو؟ المسألة ليست جغرافية أبداً ولا علاقة لها بوسع المساحة أو بضيقها، بل باتّساع النظام السياسي للتنوّع، أو بضيق ذرع الحاكم من معارضيه.
الجنرال غورو طالب الزعماء المسيحيين بالترفّع عن المصالح الشخصية. بعد قرن من الزمن، أتى الرئيس الفرنسي ليُلقّن الساسة اللبنانيين درساً في الأخلاق قبل دروس السياسة. طالبهم بمعالجة الفساد المستشري، وهدّدهم بالعقاب إن لم يفعلوا. لم يتّهم أحداً منهم بالسرقة، لكنّه كرّر صراحة ثقته بالمنظّمات غير الحكومية، مُستبطناً في كلامه عدم ثقته بمن قد يسطون على المساعدات الدولية المالية والعينية التي قدّمت لإعادة إعمار بيروت.
هل كان يقصد تدريبهم على أصول التخاطب السياسي؟ هو يعلم جيداً أّنهم معتادون على رفع سباباتهم خلال الحوار، وعلى التعبير بالأحذية عند استخفافهم بالآخر، وباللغة السوقية عند التهديد. فهل أذعنوا خوفاً؟ بل هل أذعنوا حقاً؟ وهل سيكونون على مستوى نصائحه وإرشاداته ومساعداته ولهفته على لبنان وتقديره للجوانب المشرقة والمشرّفة فيه، أم أنّ حليمة ستعود بعد مغادرته إلى عادتها القديمة؟
من الجنرال غورو إلى الرئيس ماكرون الخطاب الفرنسي حيال لبنان هو هو، بناء وطن يليق بشعب قليل عديده كثيرة مواهبه وخلّاقة مبادراته. بينما ظهر الفارق كبيراً بين فرنسا الإنتداب والشريف حسين الذي باع الثورة السورية وطفّار الشيعة مقابل مملكة ونصف المملكة، أو بينها وبين من تعاقب على حكم المنطقة بالإنقلابات والحديد والنار. مع ذلك يصرّ الطفّار من كلّ الطوائف على النهل من ينابيع الإستبداد.
حتى لو كان ماكرون يسعى وراء مصالح فرنسا في لبنان وشرق المتوسّط، على ما يشيعه أهل الممانعة، فسعيه هذا ينبغي أن يشكّل درساً مفيداً لطغمة الاستبداد اللبنانية. الحاكم الصالح يسعى وراء مصالح بلاده، فما بالُ حكّام بلادنا لا يسعون إلّا وراء مصالحهم الشخصية، ويدّعون أنّها مصالح الطوائف؟