تكلّم ماركس عن مكر التاريخ. وغالباً ما تجلى المعنى في أذهان قساوسة الماركسية في صورة قوانين “علمية“ تحكم حركة التاريخ. لذا: حسيمكن إذا امتلكنا ما يكفي من الكفاءة النظرية، وأدوات الماديتين الجدلية والتاريخية، اكتشاف علامات المكر في الماضي، والكلام عنها بطمأنينة في المستقبل.
والواقع أن ثمة الكثير من التبسيط، والاختزال، والتفكير الرغبي في الكلام عن مكر التاريخ بهذه الطريقة. فالتاريخ فاعل أعمى، ولا تحكمه قوانين بصرامة قوانين الفيزياء التي حكمت الكون حتى وقت قريب، وحتى هذه لم تعد نهائية بعد “ستيفن هاوكنغ”، وفرضية أن الكون في حالة فوضى، وسيولة كاملة.
ثمة الكثير من المصادفات، والحماقات، التي يُحرر الاعتراف بوجودها “المكر“ من قبضة العلم، ويرفعه إلى مرتبة مجاز لسيرة الإنسان ومسيرته على الأرض. وبهذه الطريقة يمكن النظر بهيبة أكثر، وطمأنينة أقل، إلى التاريخ، وإعادة الاعتبار إلى ماركس بوصفه مواطناً في القرن الواحد والعشرين، أيضاً، يصلح لنا وبنا. ومناسبة هذا الكلام سؤال يؤرقني منذ زمن: إلى متى؟
أعني: إلى متى سيستمر الصراع، في فلسطين وعليها، بين الفلسطينيين والإسرائيليين؟ يعود الإسرائيليون بالصراع إلى قرن مضى من الزمان، ويعيده الفلسطينيون إلى نكبة 1948، وبين الإسرائيليين من يعثر على جذوره البعيدة في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وبين الفلسطينيين من عثر على جذوره البعيدة في القرن السابع للميلاد. والمفارقة أن كلا الطرفين لا يتوّرع عن استعارة، وتوظيف، رواية الآخر للتدليل على تاريخية روايته. فالفلسطينيون يقاومون يهوشواع بن نون في شخص شارون، مثلاً، بينما يثأر الإسرائيليون، الآن وهنا، ليهود بني قريظة.
ثمة، هنا، ما يُحرّض على التذكير بمكر التاريخ، ولكن تجدر الملاحظة أن لا صلة واقعية، أو منطقية، بين الماضي البعيد والحاضر، بقدر ما يتجلى هذا وذاك بوصفه مرجعية للسياسة، أو “صناعة للتاريخ على هوى الناس“ (التعبير، أيضاً، لماركس)، ففي مجرّد افتعال صلة من نوع كهذا دليل إضافي على مكر التاريخ، وطريقته في السخرية.
على أي حال، يمكن، بأثر رجعي، العودة إلى أواخر القرن التاسع عشر. فالصراع بدأ، فعلاً، من هناك. وليس المقصود، الآن، لا السرد التاريخي، ولا إقامة الحجة والبرهان، بل العثور على طرف للخيط يمكننا من الكلام عن مكر التاريخ بطمأنينة أكثر. فحين فكّر الأب الروحي للصهيونية السياسية، “هرتسل”، في ضرورة وأهمية مشروع دولة لليهود، كان من بين مرافعاته الكثيرة أنها ستكون “موقعاً أمامياً للحضارة الأوروبية في وجه البربرية الآسيوية“.
وعلى الرغم من حقيقة أنه طرح مرافعته، تلك، لإقناع القوى الأوروبية الكبرى بتبني المشروع، إلا أنه كان ابناً لمكانه وزمانه. وفي ذلك الزمان والمكان، كان الصدى المحتمل لمفردات من نوع “الحضارة“ و“البربرية“ أقوى ألف مرّة مما هو عليه اليوم.
ومن المُرجّح أن ذلك الصدى كان مسموعاً في أذهان الكثيرين من مؤيديه اليهود، الذين شرعوا في الاستيطان لتحويل المشروع إلى حقيقة على الأرض. صحيح أن أوروبا كانت قاسية عليهم، تطردهم وتطاردهم، وأن العودة إلى الشرق ألهبت خيال البعض، ولكنهم كانوا أوروبيين، أيضاً، كما كانوا أبناء زمانهم ومكانهم. وفي ذلك الزمان والمكان لم تكن الكولونيالية مذمومة كما هي اليوم.
نحن، إذاً، أمام خلطة أيديولوجية صنعتها وسكنتها استيهامات سياسية وثقافية وحسابات كثيرة، منها المتخيّل اللاهب، والوهمي، ومنها البارد والواقعي. وما صنعت هذه على الأرض، وما تركت في الثقافة والسياسة، ما زال ماثلاً للعيان في مؤسسات الدولة الإسرائيلية، وطريقتها في تعريف هويتها وثقافتها. فهي غربية وأوروبية، في المقام الأوّل والأخير، وبعد العلاقة بالأميركيين، وما أحدثت من “أمركة“ هي، أيضاً، دولة ومجتمع مهاجرين.
لا يتسع المجال، هنا، لتمحيص كل تلك الدلالات والصفات. كل ما في الأمر أن في مجرّد القبول، جدلاً، بغربية، وأوروبية، الدولة الإسرائيلية، ما يستدعي، ويحرّض على العودة إلى، فرضية الموقع المتقدّم في وجه “البربرية“. مرّت مياه كثيرة تحت الجسر، كما يُقال، على مدار قرن من الزمن. وبما أننا أبناء زماننا ومكاننا، أيضاً، فلن نتمكن من عدم ملاحظة ما يتجلى من مكر التاريخ الآن وهنا.
فمنْ كان يُنتظر منه أن يكون “موقعاً متقدماً للحضارة“، ومَنْ تصرّف واقتنع، وما زال، في خطابه عن نفسه، وفي تعريفه لهويته، بأمر كهذا كتحصيل للحاصل، يبدو الآن حامياً “للبربرية“ الآسيوية، في الشرق الأوسط، وحليفاً لأكثر ممثليها تخلّفاً، وعداء وعدوانية للحضارة الغربية، إلا إذا كانت في صورة مواد استهلاكية، وتكنولوجيا، وأسلحة.
هو يفخر بذلك، طبعاً، كتعبير عن نجاحه في كسر “الطوق العربي“، وإقامة علاقات سريّة وعلنية مع عرب كثيرين. وهي قصة نجاح هائلة، بالتأكيد، ولكنه لا يملك ما يكفي من الوقت لالتقاط الأنفاس، والتفكير في مفارقات من نوع أن الموقع المتقدّم لأوروبا انقلب عليها، وأصبح في كل شيء ما عدا الاسم، رأس جسر في أوروبا والغرب لأنظمة آسيوية بربرية، فعلاً.
والأدهى أن نجاحه مشروط بديمومتها، وحمايتها من شعوبها، ومن أوروبا، إلا إذا تساوت الرؤوس، و“أنقذت“ الشعبوية والقوميات العنصرية، والمعادية في الجوهر للسامية، أوروبا من نفسها. أما ورقة التوت التي تستر عورته، ويُتوّج بها خطابه، فلا تعدو محاولة مستميتة لإنشاء “عالم جديد شجاع“، بلا قيم أعلى من السوق، كما صوّره ألدوس هوكسلي. بالمناسبة على رأس حكومة العالم عند هوكسلي، شخص اسمه مصطفى!! ولماذا كل هذا؟
لأنه لا يقبل مصيراً للفلسطينيين أقل من هزيمة نهائية. وإلى متى؟ لا أعرف، ولكن ثمة الكثير، الآن وهنا، من مكر التاريخ، وطريقته الفريدة في السخرية.
khaderhas1@hotmail.com