ما زلنا في موضوع “النقد الذاتي بعد الهزيمة”. وبما أن كلمة “التطبيع” متداولة، عل نطاق واسع هذه الأيام (في الكلام عن أشياء لم تكن لتخطر حتى على بال الشيطان نفسه، في أعقاب الهزيمة الحزيرانية، من نوع تحالف بعض “العرب” مع الإسرائيليين ضد الفلسطينيين وعرب آخرين) سنحتفظ بالكلمة، ولكن في مقاربة مختلفة.
فقبل خمسة وخمسين عاماً، كان معنى النقد الذاتي تشخيص العوامل الذاتية (الاجتماعية، والثقافية، والسياسية) التي جعلت الهزيمة ممكنة، وبلورة خارطة طريق تضمن الرد على الهزيمة، وتحقيق الانتصار. وقد أسلفنا في مقالة سبقت إلى أن ما كان في تلك الأيام خصوصيات وسمت التطوّر المُعاق للمجتمعات العربية، صُنّف في قائمة العوامل المسؤولة عن الهزيمة.
بمعنى آخر، كان ثمة ما يستدعي مقاومة الاستثناء (المُعيقات البنيوية) من خلال “تطبيع” وجود المجتمعات العربية (الكلام هنا، ودائماً، عن الحواضر فقط) مع الأزمنة الحديثة، أي تحويلها إلى كائنات طبيعية تعيش في القرن العشرين لا في القرون الوسطى. يعيش الناس في القرن العشرين بالدستور، والبرلمان، وصندوق الاقتراع، وتداول السلطة، والأحزاب، والصحافة، وحرية التعبير، وهم مواطنون لا رعايا، وطبقات اجتماعية، وفئات مهنية، لا قبائل أو طوائف).
لم تكن الأمور وردية كما نعلم. ففي الجمهوريات الراديكالية راودت الحكّام أحلام وأوهام إنشاء سلالات حاكمة (نجحت واحدة في سورية، وما زالت تكلفتها مروّعة حتى الآن). لم يُحترم صندوق الاقتراع، كما نعلم، ولا التداول السلمي للسلطة. وعن بقية الحقوق والضمانات وانتهاكها فحدّث ولا حرج.
ومع ذلك، أدى حتى الاحتكام الشكلي إلى ضرورات العيش في القرن العشرين، وكما ينبغي أن يعيش الناس في القرن العشرين، إلى تكريس قيم صعد الراديكاليون باسمها إلى سدة الحكم، وانقلبوا عليها، لتتحوّل إلى خارطة طريق للثورات الاجتماعية، التي دشّنت الحواضر طريقها بهتاف “الشعب يريد إسقاط النظام” في موجة الربيع العربي الأولى. لم يكن أحد من الطغاة في الحواضر ليجرؤ على القول إن الشعب لا يملك الحق في إسقاط النظام. لذا، حاولوا إثبات أن الشعب معهم، أو أنه وقع ضحية مؤامرة شيطانية، رغم إرادته.
يكفي ما تقدّم من أمثلة، على الأرجح، للتذكير بمقاومة الاستثناء، كدلالة أولى لمعنى التطبيع في، ومع، عالم القرن العشرين. وبهذا نقترب من دلالة “التطبيع” كما يستخدم هذه الأيام بوصفه محاولة لتكريس الاستثناء، وإعادة الاعتبار إلى معيقات التطوّر، والانقلاب على ضرورات العيش في القرن العشرين (وقد صرنا الآن في القرن الواحد والعشرين) لا في القرون الوسطى.
معنى هذا الكلام أن مجرّد الاحتكام الشكلي لشروط العيش في، ومع، القرن العشرين، لم يعد مقبولاً. فمنْ قال إن الشعب يملك حقوقاً من نوع إسقاط نظام، أو إبداء الرأي في هوية وماهية نظامه السياسي؟ ومن قال أن ثمة شيء اسمه الشعب أصلاً؟ وحتى لو وجدت أشياء كهذه في مناطق أُخرى من العالم، فمن قال إنها تصلح “للعرب”، أليس في دينهم وتاريخهم وحضارتهم ما يُغني عنها؟ ألم تدفع المجتمعات التي حكمها الراديكاليون ثمناً مروّعاً، وما طالت لا بلحَ الشام ولا عنبَ اليمن؟
تتصدر أسئلة كهذه، وغيرها بتنويعات مختلفة، المرافعات الأيديولوجية لقوى الثورة المضادة. وستبقى، على الأرجح، لعقود طويلة قادمة. واللافت أن تكريس “الاستثناء العربي” (اقرأ: القروسطي، الصحراوي، كخارطة طريق مقترحة للحواضر) لا يتأتى دون تكريس بلادة أخلاقية يندى لها الجبين.
لدينا تسميات، ودلالات مختلفة، للبلادة الأخلاقية، بطبيعة الحال، من نوع ازدواجية المعايير، والنظر بعين واحدة، والكيل بمكيالين، والميكافيلية..الخ. ومع ذلك، بلادة الاستثناء العربي الأخلاقية الجديدة، حتى وإن اجتمع فيها ما تقدّم من دلالات، تبدو أخطر من هذا بكثير، لأنها ترفض الاعتراف بالإنسان كفاعل أخلاقي مستقل، وتقايض هذا الرفض بشي آخر.
في نقدة لمجتمع الرأسمالية في أحدث تحوّلاته (يدور الكلام هنا عن الغرب الصناعي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي) تكلّم “هربرت ماركوزه” عن “الإنسان ذي البعد الواحد” في مجتمع تحكمه قيم الاستهلاك، المجتمع الذي أقنع الناس بأفكار تبدو جهنمية تماماُ من نوع أن السعادة سلعة، كغيرها، يمكن أن تباع وتُشترى. ونحن نحتاج فكرة “ماركوزه” عن السعادة بوصفها سلعة لأنها مفيدة في تسليط الضوء على المعاني العميقة لرفض الاعتراف بالإنسان كفاعل أخلاقي مستقل مقابل وعد بتمكينه من الحصول على ما يكفي لشراء سلعة السعادة.
الواقع أشد تعقيداً من النظريات، بالتأكيد. فالبلادة الأخلاقية (بكل ما تنطوي عليه من تدريب اللسان على الكذب، والعين على العمى، والدماغ على الشلل، والقلب على الجبن، والضمير على البطالة) أفضل في حالات كثيرة من المجازفة بلقمة الخبز، وما أدراك إذا كان الرهان على سلعة السعادة!! ومع ذلك، عيش وتعايش الأفراد والمجتمعات والشعوب، على مدار فترة طويلة من الزمن، وبلا ضوء في آخر النفق، مع بلادة أخلاقية من هذا النوع كارثي تماماً.
لذا، ربما حان وقت الكلام عن أزمة أخلاقية في الحقل الثقافي (أي حقل صناعة القيم)، في الحواضر، وعند الفلسطينيين على نحو خاص، فلم يعد من الممكن غض النظر، والسكوت، عمّا يتجلى في التطبيع العرباني (لكي لا يتظاهر أحد بعدم الفهم)، بلغة اليوم، من عودة المكبوت، وتكريس الاستثناء، بكل ما فيه من البذاءة. ليس المطلوب أن نكون أبطالاً، أو مغامرين، ولكن من العار أن نشهد الكارثة بكل هذا القدر من البلادة الأخلاقية، والروح الرياضية المُفتعلة، وكأن الأمر يحدث لآخرين في كوكب آخر.
عن قدر الفلسطينيين في كل حزيران..!!